15– ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت احدى الاشجار.
16– ومضت وجلست مقابله بعيدًا نحو رمية قوس. لأنها قالتّ لا انظر موت الولد، فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت.
17– فسمع الله صوت الغلام؛ ونادى ملاك الله هاجر من السّماء وقال لها ما لك يا هاجر. لا تخافي لأنّ الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو.
18– قومي احملي الغلام وشدّي يدك به لأني سأجعله أمةً عظيمةً.
19– وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء، فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام
20– وكان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس
20– وكان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس21– وسكن في برية فاران.» (سفر التّكوين، 21: 14–21).
ذكرنا عرضًا في البداية أنه من النّاحية التّاريخية لا يوجد أيّة معلوماتٍ تفيد بشيءٍ عن حياة إبراهيم وعائلته؛ أو حتى وجودهم، حتى أن الكثير من المؤرخين يعتبرونهم مجرّد شخصياتٍ أسطوريةٍ مُخترعة، ولكن يجب الانتباه إلى أنه حتى الأساطير ترتبط بأماكن وأحداث، وتنتشر في بيئاتٍ محليةٍ معينة، ويكون لها مراجع معينةً تتحدث عنها، وفي تلك الحالة التّوراة هو المصدر الرّئيسي قبل الإسلام لحياة أولئك الآباء.
لو تتبعنا خط سير رحلات النّبي إبراهيم وجميع الأحداث المرتبطة به كما تخبرنا بها التّوراة، فسنجدها تدور بالأساس حول فلسطين وشمال الجزيرة العربية، ولا يوجد أيُّ شيءٍ يشير لذهابه جنوبًا إلى مكّة لا من قريب ولا من بعيد.
أما الموقع المفترض لرحلة هاجر المطرودة مع ابنها إسماعيل؛ فهو حسب التّوراة صحراء بئر سبع جنوب غرب القدس وليس مكّة التي تقع على بعد نحو ألفٍ ومئتي كيلومتر جنوبًا، وأيضًا موضع جبل المروة أو الموريا؛ هو في التّوراة المكان الذي امتثل إبراهيم فيه للتضحية بابنه بناءً على أوامر الرّب.
كذلك حياة اسماعيل ونسله لاحقًا فهي في «برية فاران» قُرب بئر سبع قُرب سيناء، تلك الصّحراء المذكورة أيضًا في سفر الخروج كمكانٍ مر به الإسرائيليون الخارجون من مصر في زمن موسى فهؤلاء هم القبائل المعروفة باسم الإسماعيليين، والذين نجد الحديث عنهم في قصة يوسف حيث كانوا هم أصحاب القوافل التي التّقطته من البئر وباعوه في مصر، فقد ظلوا دومًا مرتبطين جغرافيًا بسيناء وصحراء الأردن لا مكّة.
أما المكان الذي عُرف باسم مقام إبراهيم فهو «بلوطات ممرا» الموضع المقدس، قرب حبرون (حيث مدفن إبراهيم ويعقوب وإسحاق) بين القدس وبئر سبع، وسمى المقام لأن إبراهيم وقف فيه أمام الرّب كما يخبرنا المؤرخ توم هولاند في كتابه.[12]
والملفت أيضًا هو إشارة هولاند إلى أنّ هذا المكان (ممرا) صار من المزارات الوثنية المقدسة للعرب قبل الإسلام، حيث كانت تُمارس فيه طقوسًا تشبه طقوس الحج الوثني التي ستُنسب لاحقًا إلى مكّة.
الخلاصة إذًا، أنّ الأماكن والأحداث المتعلقة بحياة إبراهيم وعائلته: لوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، إلخ.. قد ارتبطت حصريًا بفلسطين والصّحراء المحيطة بها لا مكّة.
حقًا، متى تم تحويل القبلة؟
«سَيَقُولُ السّفَهَاء مِنَ النّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۞ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ التي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ۞ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الذينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ۞ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًَا لَّمِنَ الظّالِمِينَ ۞ الذينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۞ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ۞ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۞ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۞ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون۞.» (البقرة: 142– 150)
هنا نتذكر ما تخبرنا به المصادر الإسلامية من أنّ الدّين الإسلامي قد ارتبط بالفعل في بدايته ولفترةٍ مؤقتةٍ بفلسطين والقدس.
من هم القرشيون؟
نلاحظ في النّصوص السّابقة من المزامير والتي تتحدث عن وادي بكّة، ذكر لجماعة «بني قورح» فمن هؤلاء؟
«قورح» أو «قوره» في الحقيقة هو الشّخص المعروف لدى المسلمين بقارون: هو عدو موسى الأثيم ومنافسه، والذي ابتلعته الأرض بأوامر الله.[13]
أمابنوه «بنو قورح» أو «القورحيون»، فهم الذين صاروا كهنة البيت وسندته:
نسل قورح بن يصهار بن قهات بن لاوي، وقد اشتهر بعضهم بالغناء بين زمرة القهاتيين، كان منهم بوابون وأحدهم وهو مسّلميًا وكيلًا على المطبوخات وبوّاب باب خيمة الاجتماع وكان هيمان المغني وصموئيل النّبي بين القورحيين) [14]، هكذا نجد أن بني قورح كانوا بوابي المعبد أي حملة مفاتيحه، والمغنيين، وحراس الخيمة، ووكلاء المطبوخات والطّبخ من أجل القرابين المقدسة. [15]
ألاتذكرنا تلك المهام والوظائف بشيءٍ معين؟
حسب السّيرة الإسلامية فهذه بالتّحديد كانت وظائف عوائل قريش، فيبيتا لله في مكّة: حجابة الكعبة (أي تولي أمر مفاتيحها)، ورفادةالحجيج (إطعامهم) وسقيهم تلك الوظائف التي يُقال أن جد محمد الرّابع (قصي) هو من قسمها بين عبد الدّار وعبد مناف. [16]
ويزداد الأمر تشويقًا حين نجد في مراجع الكتاب المقدس أن اسم بنو قورح (القورحيون) ينطق أيضًا ببنو قورش (beno qorach) قرشي qorchi القرشيون! [17] [18]
و من وصفهم كذلك تتضح صلة كهنتهم بالغناء، مما يذكّرنا نوعًا ما بقول القرآن عن قريش: «وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً» (الأنفال:35).
والمُكاء هو الصّفير بينما التّصدية هي التّصفيق باليد، فما الذي يعنيه هذا تحديدًا؟
الإسراء الغامض
تخبرنا مصادر السّيرة الإسلامية، أن الإسراء من المسجد الحرام في مكّة إلى المسجد الأقصى في القدس قد حدث قبل الهجرة مباشرةً نحو عام 621 م، ولكن أوّل ما قد يلفت النّظر في هذا الادعاء أنّه في ذلك الزّمن لم يكن هناك مسجد في القدس أصلًا!
ففي تلك البقعة المقدسة منذ القدم عند اليهود والمسمّاة بجبل الهيكل، قام الرومان بهدم المعبد اليهودي فيها عام 70 بعد الميلاد، ثم بُني تحت حكمهم وحكم البيزنطيين عدَّة أبنيةٍ دينيةٍ في ذلك الموضع، أولها وثنية، كمعبد جوبتير في القرن الثّاني للميلاد، ثم مسيحيةٌ متمثلةٌ بالكنائس، لكنها هُدمت أيضًا، وبدأ اليهود إعادة بناء هيكلهم المقدس في ظل الحكم الفارسي القصير للقدس بين عامي 610 و 615، إلّا أنّه تم إجهاض المحاولة على يد السّكان المسيحيين والذين قاموا بتحويل السّاحة إلى مقلب قمامة على سبيل الانتقام، وهو ما تؤكده المراجع الإسلامية [19]؛ وظلّ هكذا حال المنطقة حتى دخول المسلمين في خلافة عمر بن الخطاب عام 638 م.
قد يقول قائلٌ هنا إن محمد أُسريَ به إلى ساحة الأقصى؛ على أساس أن المُقدّس هو الموضع ذاته لا الأبنية، لكن القرآن يتحدث عن «مسجد» أي مكان للسجود، كما أن روايات الإسراء تتحدث عن «بيت المقدس» وأنّ جبريل ربط الدّابة عند «الباب» وأن محمد «دخل» فوجد الأنبياء مجتمعين، إذن الحديث هو بوضوحٍ عن مبنى قائم لا عن ساحة مفتوحة فضلًا عن مزبلة!
ولكن إن لم يكن للمسجد وجودًا في ذلك الزّمن، فإلى أين أُسريَ بمحمد؟ بل وإلى أين ظل المسلمون يتوجهون بالصّلاة طوال ثلاثة عشر عامًا قبل تحويل القبلة؟
كما رأينا في مثال تناول القرآن للتراث اليهودي الخاص بإبراهيم وهاجر والإسماعيليين، فيبدو أنّ التّداخل بشكلٍ عام بين نشأة الإسلام واليهودية هو تداخلٌ كبيرٌ ولافتٌ للنظر.
يُحكى لنا أنّ مكّة كانت مدينةً وثنيةً لا يكاد يوجد فيها أثرٌ لنفوذٍ يهودي، ومع ذلك نجد أن كثيرًا جدًا من القرآن ليس فقط موجهًا لخطاب بني إسرائيل في السّور اللاحقة المسماة بالمدنية والموجهة ليهود يثرب، وإنما اللافت أنّ معظم السّور المبكِّرة (المكيَّة) أيضًا تتحرك بداخل التراث اليهودي حصريًا، فتحكي عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط ويوسف؛ وتتناول مرارًا تفاصيل قصة موسى وفرعون، مما يدعونا إلى التّساؤل: أولًا من أين اقتبس محمد هذا التراث الإسرائيلي؟ وثانيًا إلى من كان يتوجّه به في مكّة؟
وإن سلّمنا بأن وجود ورقة ابن نوفل مثلًا كفيلٌ بالإجابة على السّؤال الأول، فماذا عن الأهم: الثّاني؟ لماذا يكلّف النّبي العربي نفسه بحمل تراثٍ خارجيٍّ غريبٍ بالكامل إلى قومه؟ أوَلم تكن هناك وسيلةٌ أسهل لإنشاء دعوةٍ دينية؟!
وإن سلّمنا بأن وجود ورقة ابن نوفل مثلًا كفيلٌ بالإجابة على السّؤال الأول، فماذا عن الأهم: الثّاني؟ لماذا يكلّف النّبي العربي نفسه بحمل تراثٍ خارجيٍّ غريبٍ بالكامل إلى قومه؟ أوَلم تكن هناك وسيلةٌ أسهل لإنشاء دعوةٍ دينية؟!
نعم؛ يُحكى لنا أن مكّة لم يكن فيها نفوذٌ يهودي، ولكن المسلمون مع ذلك ظلوا يصلّون إلى قبلة اليهود منذ بداية الدّعوة وحتى ما بعد الهجرة، ولم يقوموا بتحويل القبلة إلّا بعد استقرارهم إلى جوار اليهود في يثرب، وهو أمرٌ آخر يبدو لافتًا سواء بمقاييس الدّين أو حتى السّياسة، ويدعو إلى المزيد من التّشكيك في الرّواية الرّسمية.
والحديث عن تحويل القبلة ينقلنا إلى قضيةٍ صادمةٍ أخرى: وهي أنّ الدّراسات الآثارية والتّاريخية ترينا أن المسلمين الأوائل لم يكونوا يصلون نحو مكّة، وأن قبلات المساجد الأولى في العصر الإسلامي لم تكن أيّ منها تشير منها إلى مكّة! وإنما إلى مكانٍ آخر أكثر شمالًا بكثير!
لغز المساجد الأولى
- لقد جاء القرآن غامضا بالنّسبة لمكّة المكان الذي ذكرت تلك الرّواية أن القرآن نزل فيه والذي خصص له الدّور الرّئيسي في تطور الدّعوة والعقيدة الإسلاميتيين، فالقرآن لا يذكر مكّة سوى مرة واحدة وذلك في إطار الحديث عن بعض أعمال عسكرية تتعلق بمكان للعبادة. كما أنه لا يحدد كون مكان العبادة هناك وفي موضعٍ آخر نجده يسمي ذلك المكان «بكة».
وعدم التّحديد هذا يصبح مسألةً خطيرةً على ضوء وجود بعض الفجوات في الرّواية الإسلامية أو تلك التي توفرها بعض الأدلة الأثرية، من ذلك أن أبا حنيفة النّعمان مثلًا لم يكن في النّصف الأول من القرن الثّاني الهجري يكفّر من يقول أن الكعبة حق وفي نفس الوقت يشكّ فيما إذا كان موضعها هو حتمًا هذا البيت الذي يحجّ النّاس إليه ويطوفون حوله أو بيت بخراسان، وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه لم يحدد مكان القبلة وأنه اكتفى بقوله: «القبلة ما بين المشرق والمغرب»، أما عبد القاهر البغدادي (توفى سنة 429 هـ، 1037 م) فقد أعطانا صورةً أكثر تشددًا في الموقف من مسألة موضع الكعبة بقوله: «وأصحاب الحديث لا يصححون إيمان من شك في موضع الكعبة كما لا يصححون إيمان من شك في وجوب الصّلاة إلى الكعبة».بالإضافة إلى ذلك هناك روايةٌ أخرى تشير إلى أن قبلة جامع عمرو بن العاص في فسطاط مصر، التي وقف على إقامتها «ثمانون رجلًا من الصّحابة» كانت مشرقةً جدًا وأنها بقيت كذلك إلى أن هدم المسجد في زمن الوليد بن عبد الملك حين «تيامن» عامله بالقبلة الجديدة. يضاف إلى ذلك كله وجود بعض الأدلة الأثرية التي تشير من النّاحية الأخرى إلى انحراف قبلة مسجدين أمويين آخرين باتجاه اليمين، وهما مسجد الحجاج بن يوسف في واسط ومسجدٌ آخر يقع بالقرب من الموضع الذي بنيت فيه مدينة بغداد فيما بعد. الأمر الذي دفع بعض المؤرخين إلى محاولة البحث عن مكان القبلة حتى أواسط الفترة الأموية في شمال غرب الجزيرة العربية. وذلك في حد ذاته يضع مسألة تغيير القبلة في الإسلام في إطارٍ تاريخيٍّ جديدٍ للغاية لأن القرآن وإن كان تحدث عن وجود قبلة منسوخة وعن عملية نسخها فإنه لم يذكر بالتّحديد أنها كانت القدس.
من كتاب: مقدمة في التّاريخ الآخر، سليمان بشير ص50–60.
«يبدو أنهم اتجهوا في الصّلاة إلى مكانٍ ما في الشّمال الغربي من جزيرة العرب. في الموضع الأوّل، لدينا الدّليل الأركيولوجي على وجود مسجدين أمويين في العراق، مسجد الحجاج في واسط وآخر يُعْزا إلى الحقبة ذاتها تقريبًا قرب بغداد. هذان المسجدان متوجهان شمالًا إلى درجةٍ كبيرةٍ بمقدار 33 درجة و30 درجة على التّرتيب، ومع هذا يمكن لنا أن نقارن الشّهادة الأدبية التي تفيد أن القبلة العراقية كانت نحو الغرب. ثانيًا، لدينا الدّليل الأدبي المتعلق بمصر؛ فمن الجانب الإسلامي هنالك تقليدٌ يقول إن مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط كان متوجهًا نحو الشّمال البعيد، وكان لابد من تصحيحه تحت حكم قره بن شريك. من الجانب المسيحي لدينا عبارةٌ شهيرةٌ ليعقوب الرّهاوي، وهو شاهد عيان من ذلك الزّمن، تقول إن المهغرايه في مصر كانوا يصلّون إلى الشّرق نحو الكعبة. والجمع بين الدّليل الأركيولوجي من العراق والدّليل الأدبي من مصر يشير دون لبس إلى حرم في شمال غرب الجزيرة العربية، وبهذا يصعب أن نتجنب الاستنتاج بأن موقع الحرم الهاجري في مكّة كان ثانويًا.» – من كتاب: الهاجرية. لباتريشيا كرونه ومايكل كوك، ترجمة نبيل فياض، ص 17.
يبدو أن مساجد القرن السّابع –وقت ظهور الإسلام– لم تكن قِبلاتها تشير إلى مكّة، فنحن نتحدث هنا عن المساجد الأموية في مصر والعراق والشّام، ونتحدث عن فارق انحرافٍ كبيرٍ جدًا لا يمكن أن ينتج عن خطأ في التّوقيع الهندسي؛ على الأخصّ من قومٍ لهم خبرةٌ بالإرتحال والاتجاهات الجغرافية.
تؤكد المصادر القديمة الإسلامية وغير الإسلامية هذه الملاحظة: فالبلاذري مثلًا؛ المؤرخ في العصر العباسي يقول: «أنّ قبلة مسجد الكوفة بالعراق والذي يُفترض أنه بُني عام 670 تشير إلى الغرب[20] بينما كان من المفترض أن تشير إلى الجنوب مباشرةً نحو مكّة»، أما الكاتب والرّحالة المسيحي يعقوب الرّهاوي؛ فيذكر حوالي عام 705 أن المهاغرايا (العرب) في مصر يصلّون بإتجاه الشّرق نحو الكعبة[21]، ولا ندري أي كعبةٍ يقصد التي تقع شرق مصر! بالإضافة لغيرهما من المصادر.
وفي مرحلةٍ ما، لربما في النّصف الأول من القرن الثّامن، تم تعديل قبلات المساجد لتتجه ناحية مكّة.[22]
هذا يؤكد ما ذهب إليه بعض الباحثين وذكرناه سابقًا، بأنّ صراع البيوت المقدَّسة لم يتوقف، ومُعضلة القِبلات لم تُحسم، ووضعية مكّة كعاصمةٍ للإسلام لم تستقر إلّا في وقتٍ متأخرٍ جدًا، وأنّ الرّوايات والتّفاسير الإسلامية قد تمّ صياغتها لاحقًا خصيصًا لملائمة ذلك الوضع الجديد ودعمه.
الهوامش:
[1] أخبار مكّة للأزرقي.. باب ذِكْرُ حَجِّ إِبْرَاهِيمَ عليه السّلام وأذانه بالحج.. حديث رقم 89
[2] الهيتمي المكي – المصدر: الزّواجر – الصّفحة أو الرّقم 1/20.. رواه الطّبري في تفسيره للآية 127 من سورة البقرة بسنده.
[3] أخرجه ابن جرير وأبو الشّيخ في العظمة..و رواه الطّبري في تفسيره بسنده (3/61)
[4] أخبار مكّة للأزرقي.. باب مَا جَاءَ فِي حَجِّ آدَمَ عَلَيْهِ السّلامُ ودعائه..حديث رقم 28
[5] هنا يمكن مراجعة نموذج الخطوات النّمطية للبطولة الذي وضعه باحث الميثولوجيا الأمريكي جوزيف كامبيل والمعروف بإسم Monomyth «الأسطورة الأحادية» أو hero’s journey “رحلة البطل” – وهي خطوات تقليدية تتكرر في كل الملاحم الأسطورية تقريبا، بتنويعات متباينة..
Brak komentarzy:
Prześlij komentarz