poniedziałek, 19 listopada 2018

ام القرى ج2

ونقول: هناك أسبابٌ تدعو للرّيبة في القصة السّائدة، وهي أسبابٌ لها جوانبٌ متنوعةٌ وعديدة، ولا تختلف كثيرًا عن الأسباب التي دعت الباحثين للشك في رواية الكتاب المقدس للتاريخ.
من الجوانب المريبة على سبيل المثال لا الحصر، ما هو متعلقٌ بالآثار أيضًا: فنجد النّدرة المدهشة لأيّ أثرٍ يدلّ بوضوحٍ على وجود القرآن، أو وجود دينٍ يسمّى الإسلام، على مدى النّصف الأول من حكم الأمويين على الأقل: فأقدم آياتٍ قرآنيةٍ على الإطلاق نجدها في نقوش قبة الصّخرة، التي بناها الخليفة عبد الملك ابن مروان في القدس عام 691، وأقدم أجزاءٍ من مصحف نجدها في مخطوطات صنعاء، والتي يُقدّر بأنها تعود إلى زمن الوليد ابن عبد الملك، كذلك أقدم نقوش أو عملات تحمل أيّ اعترافٍ بنبوة محمد أو شهادة التّوحيد، فهي تعود أيضًا إلى زمن صراع عبد الملك مع الزّبير حوالي عام 685، أما المنقوشات والعملات قبل ذلك الزّمن أي في العهد المفترض للخلفاء الرّاشدين ومعاوية، فهي لا تحوي سوى صورًا وعلاماتٍ يهوديةً ومسيحية، دون أي شيء يدل على أن أصحابها كانوا مسلمين! فجأةً في عهد عبد الملك اختفت الصّور والرّموز اليهومسيحية من العملات وظهر مكانها لأول مرة شهادة التّوحيد المألوفة.
أما المصادر غير العربية المعاصرة والقريبة من زمن محمد، سواء سريانية أو أرمينية أو قبطية أو نسطورية أو يهودية كتعاليم يعقوب، والحواليات المارونية وغيرها، ورغم إبهامها وانحيازها المتوقع، فهي لاتذكر في مجملها أكثر من ظهور نبيٍّ بين السّراسنة العرب، وتتحدث عن بضعة معاركٍ وغزواتٍ أمر بها أو قادها بنفسه، فيما عدا ذلك فالقليل الذي تذكره يعطينا صورةً مغايرةً كثيرًا للصورة المعروفة، إذ لا نجد أيّ شيءٍ يشير إلى ديانة العرب الفاتحين، كما لا نجد ذكرًا لكلماتٍ مثل الإسلام أو المسلمين أو القرآن، وإنما ما نجده هو تسميةٌ للقوم بالـ «مهاغرايا»، والتي قد تفسر بأبناء هاجر وهم العرب أو ربما «المهاجرين»، ونجد حديثًا عن وجود تحالفٍ ما بين هؤلاء السّراسنة وبين اليهود، تحت شعار المطالبة باستعادة الأرض الابراهيمية المقدسة في فلسطين، ولاحقًا نجد أشياءً لا تقلّ غرابةً، مثل إشارةٍ إلى معاوية باعتباره أميرًا مسيحيًا حكم الشّام! هذا إلى جانب اختلافاتٍ أخرى عديدةٍ لا مجال للخوض فيها هنا.
ومن الجوانب المريبة أيضًا ما هو متعلقٌ بشخص نبي الإسلام نفسه، مثل إظهاره في السّيرة كشخصٍ مليءٍ بالمتناقضات، فهو تارةً داعيةٌ مسالمٌ حسن الخلق، يصبر على الاضطهاد من الكفار طوال ثلاثة عشر سنةً كاملة، ثم هو يتحوّل فجأةً إلى زعيمٍ قبليٍّ براجماتيٍّ دمويٍّ مزواج، وتارةً ذكيٌّ متزن، وتارةً أخرى يبدو حادّ الطّبع أقرب إلى الجنون، بحيث يبدو الأمر أحيانًا وكأننا نتحدث عن شخصين مختلفين، أو حتى عدة شخصيات.
كذلك أحداث سيرته ذاتها لا تقلّ غموضًا، فهي تارةً تبدو شديدة الصّدق والواقعية، وتارةً تبدو كملحمة انتصارٍ خارقةٍ تحتوي كل العناصر اللامعقولة والمتكررة التي نجدها في ملاحم الأبطال الأسطوريين أو نصف الأسطوريين: كالنّداء إلى المغامرة –التّردد في الإستجابة – التّدخل السّماوي – المعاناة – الهجرة – المعارك والمواجهات – الإنتصار – العودة إلى نقطة البداية[5]، هذا مع ملاحظة التّشابهات الملفتة جدًا بين سيرة محمد وسيرة العديد من الشّخصيات الدّينية الأقدم، مثل النّبي الفارسي ماني وموسى، وحتى هرقل البيزنطي وغيرهم.. مع عدم إغفال ربط هذا مع تشابه ديانة الإسلام نفسها مع ديانات المانوية واليهودية والسّامرية والصّابئة، وهناك أيضًا التّشابه مع سيرٍ إسلاميةٍ لاحقةٍ كسيرة محمد بن علي بن أبي طالب، والملقب بـمحمد بن الحنفية، ولو تذكّرنا أنّ السّيرتين كُتبتا متأخرتين، فمن الصّعب تصوّر أيّهما أُخذ عن الآخر.
إضافةً إلى بعض الجوانب المريبة المتعلقة بالقرآن نفسه، مثل مسألة تشابه بعض أبيات الشّعر الجاهلي مع آيات قرآنية، وخاصةً الشّعر المنسوب للأحناف حيث يصل الأمر أحيانًا إلى التّطابق في الكلمات وفي الأفكار، كشبه قول امرؤ القيس:
«دنت السّاعة وانشق القمر»
 مع قول القرآن: «اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ» (القمر:1).
وكقول أمية بن أبي الصّلت: 
إلــه العـالمـين وكـلِّ أرضٍ ورب الرّاسيات من الجبـال
بناها وابتنى سبعًا شدادًا بـلا عَمدٍ يريــن ولا حبــال
 وتشابهه مع قول القرآن:
«وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ» (لقمان:10)
«وَبَنَيْنَا فَوْقَكمُ سَبْعًا شِدَادًا» (النبأ:12)
«خَلَقَ السّمَاوَاتِ بِغَيْرِعَمَدٍ تَرَوْنَهَا» (لقمان:10)
وغيرها الكثير مما يصعب تصوّر أيّهما سبق الآخر زمنيًا في الحقيقة، وأيضًا مثل مسألة وجود كلماتٍ دخيلةٍ كثيرةٍ في ثنايا المصحف، منها ما ينتمي إلى لهجاتٍ عربيةٍ غير قرشيةٍ ومنها ما ينتمي إلى لغاتٍ أجنبيةٍ كلغة الفرس والرّوم والنّبط والحبشة والبربر والسّريانية والعبرية والقبطية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كلماتٌ مثل رحمن ونبي ومدينة وذكر وسبّح وفرقان وقسط وجزية وأباريق وطور وسريا وطاغوت وماعون ومنافق وسورة وكتاب ومثاني ومصحف وغيرها الكثير، هي كلماتٌ يمكن إرجاعها إلى أصلٍ آرامي–سرياني، وبعضها مستخدمٌ في العبرية والفارسية والرّومية والحبشية، بل حتى كلمة «قرآن» ذاتها هي مشتقةٌ من كلمة قِريانا qeryana السّريانية التي كان يستخدمها المسيحيون واليهود قبل الإسلام، للإشارة إلى الكتاب المقدس المقروء، حتى ذكر البعض أنّ القرآن أُخذ عن خمسين لهجةٍ ولغة![6]بل ونجد رواياتٍ عديدةً تقول بأنّ الصّحابة أنفسهم –كأبي بكر وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس– استعصى عليهم فهم الكثير من كلمات القرآن! وأيضًا ممّا يريب هو طريقة جمع المصحف ذاته، وتضارب الرّوايات التي تتعلق بجمعه مع الحديث عن آياتٍ وسور ضائعة، ووجود عدة مصاحف متنافسةٍ في زمن الصّحابة.
أيضًا هناك جوانب تثير الرّيبة تتعلق بمدينة مكّة ذاتها، مثل ماضيها الغامض وعدم وجود أيّ ذكرٍ تاريخيٍّ قديمٍ لها، مما يناقض تمامًا ما ذُكر في أقوال الإخباريين ورواة التراث عن أهميتها المزعومة قبل الإسلام وصولًا إلى زمن آدم ونوح وإبراهيم، بل ومثل أنّ قبلات المساجد الأولى في زمن الإسلام لم تكن مُوجّهة لها، بل تمّ تحويلها لاحقًا، ومثل شواهد عديدةً ومتنوعةً توحي بنقل مسرح نشأة الإسلام بالكامل إلى مكانٍ آخر.
هذه الجوانب التي أوردناها هي مجرّد أمثلةٍ وإشاراتٍ مختصرة، فالمريب والمتناقض في المصادر والنّصوص الإسلامية كثير، ولعلّ معظمه لايزال بحاجةٍ إلى المزيد من الدّراسة من المتخصصين، أما ما سنتناوله هنا فهو الجانب الوارد في الفقرة الأخيرة والمتعلق بمكّة.

 المدينة الشّبح

«من الممكن القول إننا لا نعرف عن تاريخ مكّة في فترة ما قبل الإسلام إلا من خلال ما ربطته الرّواية بها من العقيدة الإسلامية» – من كتاب: مقدمة في التّاريخ الآخر، سليمان بشير.
580345

مع معرفتنا بأن مدوّني أقدم سيرةٍ للنبي كانوا يكتبون بعد نحو قرنين من زمن وفاته، ترى إلى أيّ مدى يمكننا قبول فرضيتهم القائلة بأنّ مكّة القرن السّابع كانت بالأساس مكانًا على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية والثّراء: أم القرى؟
من المقبول عقلًا القول بأنها كانت مركزًا للحج، للوثنيين المحليين، ولكن القول بأنها كانت دبي زمانها مركزًا تجاريًا عالميًا مزدهرًا في قلب الصّحراء، هو حتمًا ليس كذلك.
أيّ حافزٍ قد يدفع باحثًا عن الأرباح كي يضع نفسه في قريةٍ قاحلةٍ على بعد مئات الأميال من أقرب بوتقةٍ استهلاكية؟ حتى قوافل الجمال القليلة التي استمرت آنذاك في التّنقل شمالًا منطلقة من حِمْيَر، متجهةً نحو سوقٍ رومانيٍّ كان قد فقد شهيته نحو البخور منذ زمنٍ طويلٍ، كانت تذهب في طريقٍ لا يمرّ بمكّة بحال.
وفي كتابات المدوّنين المعاصرين لمحمد، سواءً أكانوا سياسيين أو جغرافيين أو مؤرخين، يواجهنا ذِكر مكّة بالصّمت الصّادم، حتى في القرآن نجد ذكرها مرةً واحدةً فقط:
«وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّة» (الفتح:24).
وهي إشارةٌ قد تكون لقريةٍ كما قد تكون لمدينة. وباستثناء ذلك ففي الكم الهائل من الأدب القديم لا يوجد ذِكرٌ واحدٌ لمكّة.
فقط في عام 741، بعد أكثر من مئة سنة من موت النّبي، يظهر اسم مكّة أخيرًا على صفحات نصٍّ أجنبي، ونجد أنّ المؤلف يضع موقعها في العراق (بين مدينتي أور وحرّان).
«من الواضح إذًا أنه مهما كانت مكّة في بدايات القرن السّابع، فإنها لم تكن مدينةً تجاريةً مزدهرةً بحال» – من كتاب: تحت ظل السّيف، للمؤرخ توم هولاند، ص 303.
«يبدو جليًا أنه لو كان المكيّين وسطاء في تجارةٍ طويلة المسافة، من النّوع الذي وصف في الأدب الإسلامي، لكان هناك ذِكرٌ لذلك في كتابات زبائنهم، الذين كتبوا باستفاضةٍ عن العرب الجنوبيين الذين كانوا يمدّونهم بالعطريات، بالرّغم من الاهتمام الكبير الذي أُولي إلى العرب، فإنه ليس هناك أيّ ذكرٍ على الإطلاق لقريشٍ (قبيلة محمد نبيّ الإسلام) ومركزهم التّجاري مكّة، سواءٌ في الكتابات اليونانية أو اللاتينية أو السّريانية أو الآرامية أو القبطية، أو أيّة لغاتٍ أخرى كانت تستخدم خارج شبه الجزيرة العربية»– من كتاب: التّجارة المكية وصعود الإسلام Meccan Trade and the Rise of Islam، لباحثة التّاريخ الإسلامي باتريشيا كرون.
تاريخيًا، فالقرآن لا يخبرنا الكثير: لا نجد فيه ذكرًا واضحًا لمكان ولادة محمد، أو حياته، أو هجرته، أو نسبه، وهناك ذكرٌ واحدٌ غير واضحٍ لكلمة مكّة وذكرٌ آخر لبكّة مقرونةً بـأول بيتٍ وضع للناس، والتراث يقرن بين مكّة وبكة، فيقول أنّ هذه هي تلك بتنويعاتٍ مختلفة، وهناك كذلك إشارةٌ واحدةٌ مبهمةٌ لقريش وعلاقتها ببيتٍ مقدسٍ ما، وفي مواضع أخرى يتحدث عن الحرم وطقوس الحج. (سنتطرّق أكثر إلى بكة وإلى المزيد من الإشارات القرآنية فيما بعد).

ماذا عن نصوص التّاريخ؟

مع تفحّص المدوّنات القديمة غير الإسلامية، نفاجأ بأنّ مكّة ليس لها أيّ ذكرٍ واضحٍ أيضًا في التّاريخ، سواءٌ في الزّمن القديم المقارب لابراهيم والأنبياء، أو في الزّمن السّابق على الإسلام مباشرة.
في كتاب للباحث د. رأفت عماري بعنوان: الإسلام: في ضوء التّاريخ Islam: In Light of History، يرصد في بعض فصوله الحضارات المختلفة في المنطقة منذ القدم، ويتتبع التراث الأشوري، والبابلي، والفارسي، واليوناني، والعربي محاولًا البحث عن أي ّذكرٍ لمكّة في نصوص تلك الحضارات، دون أن يجد لها أثرًا بالمرة.
يلاحظ الكاتب مبدئيًا الغنى الكبير للآثار والموجودات المتبقية في الجزيرة العربية، منقوشاتٍ ومنازل ومعابد ونُصب وسجلات تجارية وألواح وأطلال مدن وأواني فخارية وخزفية، مما يعود الفضل فيه إلى المناخ الجاف والصّحراوي الذي يساهم في الحفاظ على الآثار ويمنعها من الانهيار والتّحلل، بحيث أن علماء الآثار اليوم نجحوا في رسم صورةٍ شبه كاملةٍ لتاريخ تلك المنطقة أحداثها وملوكها وحروبها وأنماط حياتها وأسماء آلهتها، وهذا يردّ على كل من يحاول تبرير غياب مدينةٍ بالحجم والثّقل المفترضين لمكّة بالقول أنّ غياب الدّليل لا يعني دليل الغياب، بل لو كانت مكّة موجودةً لتوقّعنا حتمًا أن يكون لها أيّ أثرٍ أو ذِكرٍ ما.
يبدأ الكاتب بسرد المدوّنات التّاريخية لمنطقة شمال غرب الجزيرة العربية منذ القرن التّاسع قبل الميلاد، منها مدنٌ كقيدار وديدان وتيماء، وقبائل وحضاراتٍ كثمود ولحيان والأنباط، والموثقة جيدًا، سواءٌ من خلال ما وُجد في تلك المناطق ذاتها من آثار، أو من خلال حديث الحضارات المجاورة (كالآشورية والبابلية) عنها، مع التّأكيد على الغياب الكامل لأيّ ذكرٍ لمكّة.
بعدها ينتقل إلى الحضارات الواقعة جنوب الجزيرة العربية، والتي تملك تراثًا آثاريًا أغنى حتى من سابقتها، يعود إلى القرن الرّابع عشر قبل الميلاد، ويتحدث عن مملكة هَرَم اليمنية، وعن ملوك مَعِن، ومملكة قَطبان، وحضارتَي سَبَأ وحِمْيَر، وكلها لديها سجلٌ مزدحمٌ بالآثار، ولكن أيضًا لا أثر لحديثٍ عن مدينةٍ تسمّى مكّة.
ثم يأتي دور شرق شبه الجزيرة، حيث نجد مملكة كِنْدَة، والتي لها مثل سابقاتها تاريخٌ معروف، كما يردّ الحديث عنها في السّجلات السّبأية، وفي أقصى شرق الجزيرة نجد تاريخًا معروفًا لحضاراتٍ عريقةٍ مثل دلمون التي تقع في دولة البحرين الحالية، والتي نعلم عنها الكثير وتذكرها المدوّنات السّومرية والأكادية منذ الألفية الرّابعة قبل الميلاد، ومَجَان وهي عُمان الحالية التي تملك تاريخًا موثقًا أيضًا، يمتدّ حتى الألفية الثّالثّة قبل الميلاد.
بعدها ينتقل إلى غياب ذكر مكّة من سجلات الحضارات العربية التي استعمرت المنطقة، فيبدأ من توسع حضارة المعنيين شمالًا واحتلال اللحيانيين للمنطقة، وعدم ذكرهم لمكّة، ثم يتحدث عن بسط الأنباط سيطرتهم على طريق التّجارة من شمال الجزيرة إلى جنوبها لقرونٍ قبل وبعد الميلاد، متضمنٌ صحراء غرب وسط الجزيرة العربية، والتي تحتوي مكّة، وعدم ذكرهم لها أيضًا رغم تسجيلهم لمدنٍ وقرًى صغيرةٍ لا أهمية لها.
كذلك أهل كِنْدَة سيطروا على غرب الجزيرة العربية، ودراسة منقوشاتهم لا تُرينا أيّ وجودٍ لمكّة في القرن الثّاني والثّالثّ بعد الميلاد.
ونرى ذات المسألة عند الحِمْيَريين الذين استعمروا المنطقة التي توجد بها مكّة اليوم ورغم كثرة منقوشاتهم فلا يوجد للمدينة ثمّة ذكر.
53948579345
ولا يختلف الأمر فيما يخصّ الحضارات الكبرى غير العربية التي قامت بغزو المنطقة، كالآشوريين والبابليين والفرس والرّومان، وهي كلها حضاراتٌ قامت باحتلال شمال وغرب وسط الجزيرة العربية، فيتناولها الكاتب ببعض التّفصيل ليخلُص إلى أنه لم تقم إحداها بالحديث عن أيّ وجودٍ لمكّة في جميع السّجلات والنّقوشات والمخطوطات التي تركتها.
وفي فصلٍ آخر من الكتاب يتناول المؤلف بالتّفصيل الكتابات القديمة للمؤرخين والجفرافيين الكلاسيكيين، وعلى الأخصّ اليونانيين والرّومان، منذ القرن الخامس قبل الميلاد وصولًا إلى الثّالثّ بعد الميلاد، حيث جمعوا معلوماتٍ مُكثّفةً ومُوثّقةً عن شبه الجزيرة العربية، ومنهم من زارها بل ورسم لها الخرائط، ذاكرًا مدنها وقراها ومعابدها وجبالها بكل اهتمامٍ ودقة، ومع ذلك فتلك الكتابات –مرةً أخرى– تخلو من أيّ ذكرٍ لمكّة.
يبدأ من هيرودوت، الذي تجوّل في كثيرٍ من أنحاء العالم القديم، وزار الجزيرة العربية في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، وكتب عن جغرافيتها ومدنها، لكنه لم يذكر مكّة، ثم ينتقل إلى القرن الرّابع قبل الميلاد، حيث أرسل الاسكندر الكبير جغرافييّن إلى الجزيرة العربية، ليجمعوا له معلوماتٍ عنها تمهيدًا لغزوها، ومع ذكر هؤلاء لتفاصيل مهمةٍ بشأن ساحل البحر الأحمر والمناطق المحيطة به، إلا أنهم أيضًا لم يذكروا شيئًا عن مكّة.
بعدها يسير المؤلف مع كُتّاب آخرين، جغرافييّن ومؤرخين، يونانيين ورومان، كثيوفراستوس الذي كتب في القرن الرّابع ق.م عن تجارة السّبأيين البرية والبحرية وإراتوسثينيس، الذي قاس طول ساحل البحر الأحمر، وأجرى مسحًا شاملا ًعن الطّرق البحرية والبرية التي تربط جنوب الجزيرة بخليج العقبة شمالًا، ووصف كل الشّعوب والمراكز في المنطقة في أواخر القرن الثّالثّ ق.م، وأغاثاركايدس السّكندري، أهمّ مؤرخٍ وجغرافيٍّ في زمانه، والذي كان قريبًا من القصر البطلمي الحاكم، مما مكّنه من وضع يديه على أرشيفٍ كاملٍ من البعثات الاستكشافية في القرن الثّالثّ والثّاني ق.م، بالإضافة إلى التّعامل شخصيًا مع «شهود عيان»، من سفراء وتجار ومكتشفين زاروا بأنفسهم المنطقة المحيطة بالبحر الأحمر، وقام بوصف تفصيلي ودقيق للقبائل والمعابد وطرق التّجارة والظّواهر الطّبيعية في تلك المنطقة، وأرتيميدوروس، المؤرخ والجغرافي اليوناني، الذي كتب أحد عشر مجلدًا في الجغرافيا في القرن الثّاني ق.م، جامعًا معلومات سابقيه ومضيفًا عليها، وواصفًا أيضًا ساحل البحر الأحمر وما حوله ثم هناك المؤرخ والجغرافي الرّوماني سترابو، والذي رافق الحملة العسكرية الرّومانية على جزيرة العرب، بالتّعاون مع الأنباط، في القرن الأول قبل الميلاد وقام كشاهد عيانٍ بتسجيل كلِّ قريةٍ ومدينةٍ في المنطقة التي تحركت فيها الحملة على ساحل البحر الأحمر من شماله حتى جنوبه، بعدها يأتي مسح بليني، الفيلسوف والعسكري والمؤرخ الرّوماني، والذي كتب موسوعته الضّخمة: «التّاريخ الطّبيعي» في القرن الأول بعد الميلاد، متحدثًا في بعض أجزائها عن جزيرة العرب، من شمالها إلى شرقها إلى جنوبها إلى غربها، ذاكرًا أكثر من تسعين إسمًا لشعبٍ وقبيلةٍ عربية، وفي جميع تلك الكتابات لا ذكر لمكّة ولا جرهم ولا قريش.
وتستمر الظّاهرة في المصادر القديمة الأثيوبية، والسّريانية، والآرامية، والقبطية: لا حرف عن مكّة.
وحين نقارن هذا الحال بأيّ مدينةٍ أخرى مثل القدس، والمذكورة بوفرةٍ في المصادر التّاريخية القديمة كرسائل تلّ العمارنة المصرية وغيرها، أو حتى كمدينة يثرب التي نجد اسمها عدة مراتٍ في المدوّنات الرّافدية واليونانية واليمنية منذ القرن السّادس قبل الميلاد، هنا يتضح لنا حجم المعضلة، بل اللغز.
أخيرًا نشير إلى ما قد يُرى كذكرٍ استثنائيٍّ لمكّة في كتاباتٍ كلاسيكية، وهو حديث الجغرافي بطليموس السّكندري في كتاباته في القرن الثّاني بعد الميلاد، عن مدينةٍ تسمى موكا وأخرى تسمّى ماكورابا، حيث يرى البعض أنّ هذه أو ربما تلك قد تكون هي مكّة التي نعرفها، غير أنّ تتبّع إحداثيات المكانين من كتابات بطليموس، يُرينا أنّ موكا تقع شمال الجزيرة العربية قرب البتراء في الأردن، بينما ماكورابا تقع في شرق جنوب الجزيرة العربية ناحية عُمان، ويحتمل أن نقرنها بميناء موكوربا الذي ذكره بليني أيضًا.

كعبة أم كعبات؟

«كان للعرب كعباتٍ عديدةًّ أخرى تحج إليها في مواسم معينة وغير معينة، تعتر (تذبح) عندها، وتقدّم لها النّذور والهدايا، وتطوف بها، ثم ترحل عنها بعد أن تكون قد قامت بجميع المناسك الدّينية المطلوبة، وقد اُشتهر من بيوت الآلهة أو الكعبات ما وجدنا ذكره عند الهمداني: بيت اللات، وكعبة نجران، وكعبة شداد الأيادي، وكعبة غطفان، وما ذكره الزّبيدي: بيت ذي الخلصة المعروف بالكعبة اليمانية، وما جاء عند ابن الكلبي: بيت ثقيف، إضافةً إلى ما أحصاه جواد علي: كعبة ذي الشّري وكعبة ذي غابة الملقب بالقدس، ومحجّاتٍ أخرى لآلهة مثل: اللات، وديان، وصالح، ورضا، ورحيم، وكعبة مكّة، وبيت العزي قرب عرفات، وبيت مناة، هذا مع ما جاء في قول الأستاذ العقاد عن البيوت التي تُعرف ببيوت الله أو البيوت الحرام، ويقصدها الحجيج في مواسمٍ معلومةٍ تشترك فيها القبائل، وكان منها في الجزيرة العربية عدة بيوتٍ مشهورة، وهي: بيت الأقيصر، وبيت ذي الخلصة، وبيت رضاء، وبيت نجران، وبيت مكّة، وكان بيت الأقيصر في مشارف مقصد القبائل؛ من قضاعة ولخم وجذام وعاملة، يحجّون إليه ويحلقون رؤوسهم عنده.» – من كتاب: في طريق الميثولوجيا عند العرب، للباحث محمود سليم حوت.
774747474
تاريخيًاتاريخيًا، تمّت إعادة بناء كعبة مكّة الحالية عام 1630، على يد السّلطان العثماني مراد الرّابع، بعد أن كانت قد تصدّعت،أما البناء الأقدم فتحكي لنا المصادر الإسلامية أنه قد تهدّم وأعيد بناؤه مرتين متتاليتين في العصر الأموي: مرة في عام 683 م في أثناء حصار مكّة الأول، من قِبَل جيش يزيد بن معاوية، لحاكم الحجاز آنذاك عبد الله بن الزّبير المتحصّن بالحرم حيث شبّ حريقٌ في الكعبة لأسبابٍ غامضةٍ اختُلف في إلقاء الذّنب فيها على جيش يزيد أو على الزّبير نفسه، وبعد فشل الحصار وانسحاب الجيش الأموي بسبب وفاة الخليفة يزيد في دمشق، وهدّ الزّبير ما تبقّى من الكعبة، وأعاد بناءها مرةً أخرى على قواعد إبراهيم، مغيّرًا فيها بعض الأمور حسب ما تخبرنا الرّوايات.
وبعد تولّي عبد الملك بن مروان للخلافة، أراد التّخلص من ابن الزّبير، فقام بتوجيه حملةٍ عسكريةٍ أخرى إلى مكّة بقيادة الحجّاج بن يوسف الثّقفي، والذي وصل هناك وحاصرها ثانيةً عام 692 مكررًا سيناريو القذف بالمنجنيق حتى هدمها مرةً أخرى، وبعد انتصار الأمويين ومقتل ابن الزّبير، يُقال أنّ الحجاج قد أعاد بناء الكعبة مرةً أخرى على أسس قريش، معيدًا الوضع إلى ما كان قبل تغييرات ابن الزّبير.
أما قبل الإسلام، فتحدثنا المصادر الإسلامية عن بناء قريش للكعبة زمن الجاهلية، في شباب محمد وقُبيل دعوته، حيث كانت تهدّمت بسبب حريقٍ عفويٍّ شبّ بها، ثم قبل هذا الزّمن لا نجد سوى السّرد القصصي الغامض، الذي ينسب بناء الكعبة إلى ابراهيم وآدم والملائكة… إلخ.
99898898765
بشأن تاريخ الجاهلية فلدينا مصادرٌ قديمةٌ عديدةٌ غير عربية، تتحدّث عن وجود بيوتٍ مقدَّسةٍ دينيًا لدى عرب شبه الجزيرة قبل الإسلام، وأحيانًا يكون الحديث عن بيتٍ واحدٍ مميز، لكنّ مكانه لا يُذكر بدقة، على الجانب الآخر تذكر لنا مصادر التراث الإسلامي أسماء بضعٍ وعشرين كعبةً على الأقل، منتشرةً بين الأردن واليمن، تحجّ إليها مجموعاتٌ من العرب وهو ما تؤكّده لنا الآثار، حيث أنّ بعضًا من تلك الأبنية المقدسة مازال قائمًا بالفعل إلى يومنا هذا.
لكن الملاحظ أيضًا أنّ معظم تلك المصادر الإسلامية المكتوبة في العصر العباسي، تُلحّ على أنّ بيت مكّة كان يحظى بأهميةٍ وقداسةٍ مميزةٍ عن سائر البيوت العربية، وهو ما لا أثر له في التّاريخ كما قلنا.

حملة أبرهة التي لم تحدث

«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ۞ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ۞ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ۞ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ۞ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ۞» (الفيل).
أبابيل: جماعات متتابعة، سِجِّيل: الطّين المتحجر، عَصفٍ: ورق الزّرع.
«32– لذلك هكذا قال الرّب عن ملك آشور: لا يدخل هذه المدينة ولا يرمي هناك سهمًا ولا يتقدّم عليها بترسٍ ولا يقيم عليها مترسة.
33– في الطّريق الذي جاء فيه يرجع، وإلى هذه المدينة لا يدخل، يقول الرّب.
34– وأحامي عن هذه المدينة لأخلصها من أجل نفسي ومن أجل داود عبدي.
35– وكان في تلك الليلة أنَّ ملاك الرّب خرج وضرب من جيش آشور مئة ألف وخمسة وثمانين ألفًا، ولما بكّروا صباحًا إذا هم جميعًا جثثٌ ميتة.» (سفر الملوك الثّاني 19: 32–35)، متحدثًا عن حصار الآشوريين للقدس وكيف أنقذ الرّب المدينة المقدسة.
يُنقل عن ابن إسحاق أن أبرهة الأشرم حاكم اليمن التّابع للنجاشي ملك الحبشة (أثيوبيا) بنى كنيسةً في صنعاء وسمّاها القُلَّيس، وأراد أن يجتذب الحجيج العرب إليها منافسًا بذلك كعبة مكّة، فجاء رجلٌ من العرب فقعد فيها (أي قضى حاجته)، مما أثار غضب أبرهة وقرّر أن يهدم الكعبة فخرج بجيشه مُحضرًا الأفيال مع كبيرهم الذي اسمه محمود، فأرسل الله على أبرهة طيرًا ترميه بحجارةٍ من مناقيرها، حتى هلك هو وجيشه وأفياله، ويُفترض أنّ الواقعة حدثت في عام ميلاد محمد على أشهر الأقوال وهو ما سُمّي بعام الفيل.
بغضِّ النَّظر عن الملامح الأسطورية الواضحة للقصة، وبغضّ النّظر عن أنّ السّورة القرآنية تخلو من أيّ تفاصيل تربط هؤلاء القوم الغامضين المسمّون «أصحاب الفيل» بالكعبة أو بمكّة أو بالحبشة بأيّ شكل، مما يفتح المجال واسعًا لتخمين ما المقصود منها بالتّحديد إلّا أننا نسجّل عدة نقاطٍ عامة:
1– الحادثة –كما يُتوقع– غير مذكورةٍ بالمرة في أيّ مرجعٍ معاصرٍ أو لاحق يدعم ما ادّعاه ابن إسحاق، والذي ظلّ الجميع ينقلون عنه حتى صارت القصة من المسلّمات، مع ملاحظة أنّ غياب مصادر أخرى يعني أننا نتحدث عن حملةٍ عسكريةٍ كاملةٍ تمّ إهلاكها في الصّحراء، دون أن نجد أيّ مصدرٍ تاريخيٍّ يتحدث عن الأمر!
2– قلنا أنّ مكّة ذاتها غير مذكورةٍ في أيّ تاريخٍ غير عربي، وتاريخ الحبشة ليس استثناءً: الملك المسيحي أبرهة الذي حكم بالفعل أجزاءً من اليمن والحجاز منتصف القرن السّادس، لم يُذكر عنه أنه ذهب إلى موضع مكّة، ولا يوجد حتى ما يثبت أنه كان على علمٍ بمدينةٍ بذلك الإسم.
ونشير هنا إلى أحد الكتابات المنسوبة لأبرهة، اكتشفها آثاريون فرنسيون عام 1951، وتتحدث عن الحملات العسكرية التي قام بها الرّجلفي جنوب الحجاز.
5934854358943
النّقش
النّقش معروفٌ باسم «نقش بئر المريغان» تحت الرّمز RY 506 وهو آخر نصٍّ معروفٍ لأبرهة، حيث يعود إلى العام 552 للميلاد، ونصه مُترجمًا هو كالتّالي:
«بقوّة الرّحمن ومسيحه الملك أبرهة زيبمان ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وقبائلهم (في) الجبال والسّواحل، سطر هذا النّقش عندما غزا [قبيلة] معد [في[ غزوة الرّبيع في شهر ذو الثّابة (أبريل) عندما ثاروا كل [قبائل] بنى عامر، وعيّن الملك [القائد] أبا جبر مع [قبيلة] علي [علا؟ علي؟] [والقائد] بشر بن حصن مع [قبيلة] سعد [وقبيلة] مراد، وحضروا أمام الجيش ـ ضد بنى عامر ]وقد وجّهت] كندة وعلي في وادي ذو مرخ، ومراد وسعد في واد على طريق تربن وذبحوا وأسروا وغنموا بوفرة وحارب الملك في حلبن واقترب كظل معد (وأخذ) أسرى وبعد ذلك فوّضوا [قبيلة معد] عمرو بن المنذر [في الصّلح] فضمنهم ابنه (عروة) (عن أبرهة) [فعيّنه حاكمًا على] معد ورجع (أبرهة) من حلبن بقوة الرّحمن في شهر ذو علان في السّنة الثّانية والسّتين وستمائة [552 ميلادي]».[7]
ومن النّقوش يتبيّن لنا أولًا أنّ أبرهة لم يذهب إلى آخر الطّريق وإنما توقّف في مرحلةٍ ما، وقام بتوجيه الحملات، وثانيًا أنه لم يصل إلى موضع مكّة بل قد يكون أقرب مكانٍ وصلوا إليه هو وادي تربن الذي يقع بعيدًا عن مكّة نحو 190 كيلومتر، مع ملاحظة أنه لم يصل حتى إلى تربن وإنما إلى مكان على طريق تربن، وثالثّا يتبيّن لنا أنّ أبرهة قد عاد منتصرًا من حملاته، ولم يهلك، وبالطّبع لا يوجد أيّ ذكرٍ لأفيال أو طيور تلقي بحجارةٍ من مناقيرها.
3– أبرهة (على الأرجح في رأي كثيرٍ من المؤرخين) مات عام 553 أو نحو ذلك، أي قبل عام الفيل المزعوم بكثير. [8] [9]
4– القصة مليئةٌ بالصّعوبات المنطقية التي تجعلها مستحيلة الحدوث: فالأفيال أولًا تحتاج إلى كمياتٍ هائلةٍ من الماء والطّعام، كما أنها بطيئة الحركة ولا تتحمّل السّير في الصّحراء لمسافاتٍ كبيرة، مما يجعلها اختيارًا غير عمليٍّ بالمرة في تلك البيئة وتلك الظّروف، ولا يُتوقع أن قائدًا عسكريًا سيكلّف نفسه باستيراد تلك الكائنات الثّقيلة والمرهقة من أفريقيا، كي يغزو بها وسط الجزيرة العربية وفوق هذا فالفيل الأفريقي يختلف عن الآسيوي في أنّ حجمه أضخم وطبيعته أشرس وأعصى على التّرويض، ولذلك لا يُستخدم في الحروب أصلًا [10]، علمًا بأنّ الشّعب الوحيد الذي كان يستخدم الفيل في الحروب في ذلك الزّمن هم الفرس.
5– يلاحظ محمد النّجار في مقالتّه: قراءة في بعض السّيرة النّبويّة، وجود رواياتٍ أخرى مختلفةٍ للواقعة، غير رواية ابن إسحاق، فيذكر مثلًا رواية مقاتل بن سليمان صاحب أقدم تفسيرٍ للقرآن، الذي يذكر أن بطلَّ القصة ليس أبرهة وإنما ابنه! كما يحكي أنّ الجيش انسحب في هذا العام؛ وعاد في حملةٍ أخرى بعد سنتين، ويشير النّجار أيضًا إلى أقدم كتابٍ في الحديث، وهو: مصنّف بن عبد الرّزاق، الذي ينقل عن الزّهري أنّ القصة لم تحدث عام ولادة محمد؛ وإنما قبل ذلك بعقود وهو ما تدعمه رواياتٌ أخرى في المصادر الإسلامية. ويرى الكاتب أن هذا الخلط يدلُّ على أنّ القصّة لم تأخذ صورتها النّهائيّة التي نعرفها اليوم.
إذّا، فالخلاصة كما يبدو لنا أنّ القصة مختلقة، حيث تحوي جميع ملامح الأساطير القديمة التي صِيغت بشكلٍ هوليوودي مشوقٍ تم بلورتها في العصر العباسي أو قبل ذلك بقليل، والهدف الأساسي الواضح منها هو إعلاء شأن مكّة على سائر المدن العربية ورفع مكانة كعبتها على سائر الكعبات العربية، والتّأكيد على كونها علامةً مقدسة، يتدخل الله شخصيًا للدفاع عنها حتى وهي مليئةٌ بالأصنام!

الهدف من اختراع تاريخٍ عريقٍ لمكّة

لو تذكرنا مثال أساطير تأسيس روما التي سادت في زمانها، مع محاولات خلق أمجادٍ ماضيةٍ لها عن طريق القصص الرّوايات في زمنٍ كانت العظمة فيه تقاس بالعراقة والقدم؛ وهو ما حدث أيضًا مع القسطنطينية والقدس وغيرهم من المدن، فسيمكننا الاستنتاج إذًا من خلال ما استعرضناه أنه في مرحلةٍ ما؛ تمّ اختلاق تاريخٍ قديمٍ مجيدٍ لمكّة من قِبَل الرّواة ومدوّني السّيرة والتّاريخ الإسلامي، مع إحاطتها بالقصص والرّوايات ذات الطّابع الأسطوري بهدف منحها المزيد من القداسة والهيبة الشّعبية؛ على غرار ما تمّ سابقًا مع مدنٍ أخرى.
هكذا علينا ألّا نكتفي بملاحظة أنّ تاريخ مكّة في الحقيقة هو أكثر حداثةً وأكثر تواضعًا مما يُراد لنا تصديقه، لكن الأهم أيضًا هو ملاحظة أنّ وجود تلك الأساطير نفسها وكثرتها يعتبر دليلًا على أنّ الحاجة إلى تعظيم مكّة وكعبتها ظلّت موجودةً في العصر العباسي، أي في عزّ قوة الإسلام واستقراره! مما يثير التّساؤلات حتمًا.
لهذا احتمالان: الأول متوقعٌ ومفهوم، هو أنّ ارتباط مكّة بمهد الرّسالة الإسلامية وحياة النّبي كان هو الدّافع لدى الرّواة اللاحقين لتمجيدها ومنحها تاريخًا عريقًا.
أما الاحتمال الثّاني –والأكثر راديكالية– هو أنّ ربط مكّة بالإسلام ونبيّه، هو ذاته ليس إلّا كذبةً أخرى صِيغت كجزءٍ من خطة الرّواة لتمجيد المدينة!
كما سنرى، فهناك من الأدلة ما قد يدفع لترجيح الاحتمال الثّاني على غرابته: هناك فعلًا شواهدٌ عديدةٌ آثاريةٌ وتاريخيةٌ ومنطقية؛ بل وقرآنية توحي من ناحية بأنّ الإسلام لم يبدأ في مكّة، وتوحي من ناحيةٍ أخرى باستمرار الصّراع بين البيوت العربية المقدسة، والتّخبط في الاتفاق على القبلة والتّحولات فيها؛ وصولًا إلى منتصف العصر الأموي على الأقل وتوحي من ناحيةٍ ثالثّةٍ بأنّ مكّة لم تأخذ مكانتها المألوفة لنا إلّا في وقتٍ متأخر، وكحلقةٍ في تلك السّلسلة من التّحولات ثم بعد ذلك تمّ نسج الرّوايات بحيث تدعم ذلك التّحول وتمنح مكّة بُعدًا تاريخيًا مفتعلًا.
بالتّالي الشّك في تاريخ مكّة لا ينبغي أن يقتصر على أحداث ما قبل الإسلام، كبناء آدم أو الملائكة أو ابراهيم أو اسماعيل للكعبة، أو مكانة المدينة كمركزٍ دينيٍّ وتجاريٍّ جاهلي، بل ينبغي أن يمتدّ الشّك ليشمل تاريخها الإسلامي المبكّر أيضًا، وطبيعة علاقتها مع محمد والمؤمنين الأوائل كما سنرى.

لغز بكة

«إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ۞ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ.» (آل عمران: 96،97).

«كون بكة هي مكّة، وكون مكّة واقعةٌ في الحجاز، هما فرضيتان مأخوذتان كأمورٍ مسلمٍ بها عند ابن إسحاق، ووارثوه، ومع ذلك تبقى الحقيقة غير المريحة أنه لا يوجد أدنى دعمٍ لهذه أو تلك بين ثنايا القرآن نفسه.» – من كتاب: تحت ظل السّيف، للمؤرخ توم هولاند ص328، 329.
«وعلى الرّغم مما يبدو من إجماع الجغرافيين العرب على كون مكّة هي بكة، فإن اضطراب الرّوايات بشأن ذلك ربما يشكل صدى لمحاولاتٍ متأخرةٍ من الدّمج بين المكانين، يقول ياقوت بعد أن يؤكد أن مكّة هي بكة بإبدال الميم باء: وقيل بكة بطن مكّة، وقيل موضع البيت المسجد ومكّة وما وراؤه، وقيل البيت مكّة وما والاه بكة، ورُوي عن مغيرة عن إبراهيم قال: مكّة موضع البيت وبمكّة موضع القرية، وقال يحيى بن أبي أنيسة: بكة موضع البيت ومكّة الحرم كله، وقال زيد بن أسلم: بكة الكعبة والمسجد؛ ومكّة ذو طوى وهو بطن مكّة، ولعل هذا الاضطراب وتعدد الرّوايات بشأن الموقع والتّسميات قد نتجا بالدّرجة الأولى عن كون القرآن نفسه لم يجزم بكون مكّة وبكة يدلان على نفس المكان، كما أنه من المفيد ملاحظة أن الرّواية الإسلامية تنسب إلى مكّة حوالي عشرين اسما آخر.» – من كتاب: مقدمة في التّاريخ الآخر، سليمان بشير ص 90.
    1. ما أحلى مساكنك يارب الجنود.
    2. تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب. قلبي ولحمي يهتفان بالإله الحي.
    3. العصفور أيضًا وجد بيتًا، والسنونة عشًا لنفسها حيث تضع أفراخها، مذابحك يارب الجنود، ملكي وإلهي.
    4. طوبى للساكنين في بيتك، أبدًا يسبحونك.
      1. طوبى لأناسٍ عزهم بك. طرق بيتك في قلوبهم.
      2. عابرين في وادي البكاء (في النسخة الانجليزية: وادي بكّة Valley of Baka عن العبرية בְּעֵמֶק הַבָּכָא وترجمتها الحرفيَّة: وادي الدموع)، يُصيرونه ينبوعًا. أيضًا ببركاتٍ يغطون مورة.
      3. يذهبون من قوة إلى قوة. يرون قدام الله في صهيون.
      4. يارب إله الجنود، اسمع صلاتي، واصغ يا إله يعقوب.
        1. يا مجننا انظر يا الله، والتفت إلى وجه مسيحك.
        2. لأن يومًا واحدًا في ديارك خيرٌ من ألف. اخترت الوقوف على العتبة في بيت إلهي على السكن في خيام الأشرار.
        3. لأن الرب الله، شمس ومجن. الرب يعطي رحمةً ومجدًا. لا يمنع خيرًا عن السالكين بالكمال.
        4. يارب الجنود، طوبى للإنسان المتكل عليك» – (سفر المزامير: 84).
        في حين أنّ القرآن لا يفهم منه بالمرة موضع بكة أو أيَّ شيءٍ محددٍ بشأنها، لكن المُلفت أننا نجد ذكرًا لذلك الإسم في التّوراة مقرونًا بطقوسٍ تشبه الحج، في حديثٍ عن بيت الرّب، والارتحال نحوه بالتّسبيح والصّلاة علمًا بأن العبارة في المزامير التي تترجم عادةً بـ«وادي البكاء»، من الأصحّ ترجمتها إلى «وادي بكة» كإسم علم، والذي يرجح أنه وادٍ حقيقيٌّ في فلسطين قرب القدس.[11]
      5. ولو عدنا إلى الآية القرآنية من سورة آل عمران، لنلاحظ أن سياقها – ما سبقها وما لحقها – إنما يتحدث عن بني إسرائيل تحديدًا وحصريًا حينها يزداد الشّك.
        «كُلُّ الطّعَامِ كَانَ حِـلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۞ فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ۞ قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۞ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ۞ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ۞ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ۞ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ۞» (آل عمران: 93–99).
      6. وحين نلاحظ ربط الآية لبكة مع النّبي إبراهيم، مقامه ودينه، فسنعود لتذكر ارتباط إبراهيم الأصلي ومعه التراث الإبراهيمي كله بفلسطين وشمال الجزيرة لا مكّة، وحينها ربما تتضح المسألة أكثر.

        أين وُجد إبراهيم وهاجر واسماعيل والإسماعيليين؟

        «فنقل إبرام خيامه وأتى واقام عند بلوطات ممرا التي في حبرون. بنى هناك مذبحًا للرب.» – (سفر التّكوين، 13: 18)
        «وظهر له الرّب عند بلوطات ممرا وهو جالسّ في باب الخيمة وقت حرّ النّهار.» – (سفر التّكوين، 18: 1)
        1– وحدث بعد هذه الأمور أنّ الله امتحن ابراهيم فقال له يا ابراهيم؛ فقال هأنذا.
        2– فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق واذهب إلى أرض المريا واصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك. 
        3– فبكّر ابراهيم صباحًا وشد على حماره وأخذ اثنين من غلمانه معه واسحق ابنه وشقق حطبًا لمحرقة وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله.» – (سفر التّكوين، 22: 1،3)
        14– فبكّر ابراهيم صباحًا وأخذ خبزًا وقربة ماءٍ وأعطاهما لهاجر واضعًا إياهما على كتفها والولد وصرفها. فمضت وتاهت في برية بئر سبع.

Brak komentarzy:

Prześlij komentarz