niedziela, 11 listopada 2018

اورشاليم

 الأوضاع العمرانية للمدينة :
القدس في تلك الفترة، ومن بينها أنه كان يوجد فيها كثير من الكروم وأشجار الفاكهة كالتين والزيتون والعنب والتفاح والرمان والتوت والأجاص واللوز …… الخ، سواء في المدينة أو خارجها.
في حين أننا نجد هذا يتعارض مع أقوال الزوار الأوروبيين الذين سعوا إلى تأكيد النواحي السلبية في المدينة، فعلى سبيل المثال تحدث داريفوا عن الخراب الشامل والأراضي المهملة وقطاع الهائمين في البلاد، وعن منطقة اليهود الجبلية المجدبة. وكذلك فعل السائح الفرنسي فولني VOLNEY الذي زار مدينة القدس سنة 1784 وتحدث عن أسوارها المساواة بالأرض، وفنادقها الممتلئة وجميع مبانيها المثقلة بالأنقاض.
ولكن على الرغم من وجود بعض المناطق المهملة في مدينة القدس في تلك الفترة وهو أمر طبيعي، كانت هناك أيضًا عدة دارات وقصور منها قصور جار الله بن أبي اللطف، ونور الدين الجماعي (الخطيب)، وصالح العسلي. كما كان  هناك قصران بناهما الشيخ محمد الخليلي خارج أسوار المدينة. وقد أكد الخليلي في وقفيته على أهمية عمارة القدس وشحنها بالسكان قائلاً: (إرهابًا للعدو وإغاظة له وقطعًا لأطماعه).
لكن ما هو مؤكد منه أنه لم توجد أية وثائق عن مشروعات عمرانية عامة وكبيرة في القدس خلال هذه الفترة باستثناء أعمال الترميم الدائمة في منطقة الحرم الشريف حيث جرت أعمال الترميم في قبة الصخرة في السنوات 1705و1735و1752و1780.أما عن واقع المدينة، فمن خلال مشاهدات الزوار والسواح الأجانب للمدينة في أوائل القرن التاسع عشر، فقد قال أحدهم أنه لم ير أثرًا للمدارس التي كانت تحيط بالحرم فقد اختفت، وهى تلك المدارس التي رآها السائح (أوليا جيلي) في الأروقة المحيطة بالحرم في القرن السابع عشر، وسبب اختفائها في الغالب هو انقراض أوقافها كما سبق الحديث عنه في الفصل السابق.
ويذكر السائح والعالم الألماني سيتزن SEETZEN الذي زار المدينة عام 1806م أن هناك مصنعًا كبيرًا للجلود قرب كنيسة القبر المقدس (كنسية القيامة) وكذلك عددًا من المشاغل بينها 5 طواحين و25 فرنًا ويبدو من وصفه للمهن المحلية أنه كان في مدينة القدس 700 من أصحاب الصنائع والتجار كحد أدني.
أما عن الجانب السكاني للمدينة فقد قدر السائح SEETZEN سكان المدينة سنة 1806 بحوالي 12 ألف نسمة. في حين قدر السائح فولني VOLNEY الذي زار المدينة في فترة سابقة أي سنة 1784 في أواخر القرن الثامن عشر بأن عدد سكانها حوالي 12 ألفًا أو 14 ألف نسمة. ولأنه من غير الممكن إعطاء أرقام دقيقة لغياب الإحصاءات الرسمية للسكان، فإن العدد حسب هذه التقديرات وغيرها لم يتجاوز 14 ألف نسمة والمسلمون كانوا يشكلون الكثرة الساحقة.
ومن أشهر علماء القدس في تلك الفترة موسى الخالدي (1767-1832) وكان عالمًا بارزًا ومؤلفًا في الفقه، وقد تمتع باحترام كبير لدى السلطان محمود الثاني وفي الدوائر العلمية في استنبول، وقد شغل في وقت متأخر من حياته منصبًا هامًا هو قاضي عسكر الأناضول، وهو أحد أعلى ثلاثة مناصب قضائية في الدولة العثمانية .

القدس والدولة العثمانية في أوائل القرن التاسع عشر

أولا  القدس في عهد السلطان محمود الثاني: حكم في الفترة (1808-1839):
في بداية القرن التاسع عشر كان على رأس سدة الحكم في الدولة العثمانية السلطان محمود الثاني، الذي حاول إحداث بعض الإصلاحات في أجهزة الدولة فكان من أهمها القضاء على الانكشارية وإصلاح الجندية، إلا أن هذه الإصلاحات لم تحدث سوى تغيير بسيط وجزئي في أحوال البلاد التي استمرت في الانحدار والتراجع الكبير أمام تقدم وازدهار الدول الأوروبية في تلك الآونة. أما بالنسبة للمدينة المقدسة فقد كان حكمها خلال الجزء الأعظم من الثلث الأول في القرن التاسع عشر في يد والي صيدا على الرغم أنه كان عادة يتبع والي دمشق.
بعد وفاة والي صيدا أحمد باشا الجزار سنة 1804، تلاه سليمان باشا (1804-1818) الذي تلاه بدوره عبد الله باشا (1818-1831)، وخلال هذه الفترة تولى حكم القدس عدد من الحكام المحليين الذين كان يدعى الواحد منهم بـ (المتسلم)، وقد تولى متسلم يافا محمد أبو المرق حكم القدس في خلال السنوات (1802-1803) و(1805-1807)، لكنه كان مكروهًا من قبل العامة من الناس لكثرة استبداده وتسلطه على أهل يافا والقدس والخليل والرملة وغزة، وقد ضاق أبو المرق بالحجاج المسيحيين أيضًا وفرض عليهم الإتاوات الباهظة.
ما أهم التعميرات والترميمات التي تمت في مدينة القدس خلال السنوات الأولى من القرن التاسع عشر وبأمر من السلطان محمود الثاني فهي :
1  في سنة 1812 عمّر متسلم القدس كنج آغا قناة السبيل التي تجري فيها مياه برك سليمان إلى القدس.
 في سنة 1816 قام سليمان باشا والي صيدا بترميم المسجد الأقصى على نفقته الخاصة وأنشئ معمل خاص للقيشاني في مدينة القدس يسد احتياجات المسجد الأقصى منه في عمليات الترميم.
 في عامي 1817-1818 قام الوالي سليمان باشا بتنفيذ أعمال ترميم كبيرة في قبة الصخرة المشرفة كان السلطان محمود الثاني أمر بها، واستمرت هذه الترميمات إحدى وعشرين شهرًا وبلغت تكاليفها 4000 كيس.

ومن الحوادث الهامة التي شهدتها المدينة المقدسة في عهد السلطان محمود الثاني نذكر منها ما يلي:
الحادثة الأولى :
في سنة 1808 دمر حريق الجزء الغربي من كنيسة القيامة، واتهم الأرمن بإشعال النار في الجزء المخصص لهم من الكنيسة في محاولة لتغيير الوضع الراهن STATUS QUOوقدمت الطوائف جميعها عروضًا لإعادة التعمير في الكنيسة وبعد كثير من البيانات والاحتجاجات، نجح الروم في الحصول على إذن لمباشرة العمل.
وفي تلك الأوقات كان السلطان محمود الثاني قد تأكد من حالة الفوضى والفساد التي حلّت بقوات الانكشارية، وأنها من أكبر أسباب تأخر الدولة العثمانية إزاء تقدم الدول الأوروبية المستمر والتي كانت تعتمد الأنظمة العسكرية في إدارة جيوشها، فأصدر أوامره السلطانية بضرورة انضمامهم إلى الجيش، وعلى إثر إسناد مهمة حماية قلعة القدس إلى جنود آخرين محلهم قام الانكشاريون بثورة ضد الدولة، وأخذوا يعيثون فسادًا بالمدينة، حتى أنهم حرّضوا السكان المسلمين على عرقلة أعمال التعمير في كنيسة القيامة. وتلا ذلك ثورة عارمة وطرد الثائرون متسلم المدينة واعتصموا بالقلعة.
ولما علمت دمشق بما جرى استنجد واليها بسليمان باشا والي صيدا الذي أصدر أوامره بتجريد حملة لتأديب العصاة بقيادة ضابط مغربي يدعى أبو زريعة وأمره بفتح القدس وقطع دابر الفتنة.
بعد وصول الحملة إلى القدس أخذ العفيفي رئيس الانكشارية وأبو زريعة والمتسلم ينصحون المتمردين بالانصياع للأوامر والانضباط، لكنهم لم يستجيبوا للدعوة مما اضطر قائد الحملة للتنكيل بهم وإرغامهم على الاستسلام، ويقال أن أبا زريعة قطع بيديه أعناق 64 ثائرًا، وأرسل رؤوسهم إلى سليمان باشا. وفي عام 1826 تمكن السلطان محمود الثاني من القضاء نهائيًا على الانكشارية، فأمر بإبطال فئاتها وملابسها واسمها في جميع الممالك المحروسة.
الحادثة الثانية :
أنه في عام 1823 قدم إلى مدينة القدس أول جماعة من المبشرين الإنجليز أملاً بالعمل على هداية اليهود إلى النصرانية.
الحادثة الثالثة :
في عام 1824 شهدت مدينة القدس ثورة شعبية سببها زيادة عبء الضرائب، وقد روى وقائعها بالتفصيل الراهب اليوناني نيوفيتوس NEOPHYTES قائلاً: طلب والي دمشق الجديد مصطفي باشا أن يدفع الفلاحون أعشارًا أكبر، تبلغ عشرة أضعاف الأعشار المعتادة. وعندما ثار فلاحو المنطقة المحيطة بمدينة القدس، قام الباشا بإرسال 100 جندي إلى قلعة المدينة، ثم سار بنفسه من دمشق على رأس خمسة آلاف رجل لمعاقبة الثائرين، ولدى اقتراب الباشا من المنطقة، هجر الفلاحون قراهم ولجأ بعضهم إلى الأديرة التي قام الجنود بتفتيشها، ولما خشي المسيحيون أن تدمر المدفعية الأديرة، قاموا بدور الوساطة بين الباشا والفلاحين، وبعد أن دفع الفلاحون والمسيحيون غرامة كبيرة تم التوصل إلى اتفاق، ولكن فور مغادرة الباشا إلى دمشق استؤنفت الثورة، لكن هذه المرة داخل المدينة نفسها، ففي الخامس من حزيران سنة 1825 احتل أهل القدس القلعة وحرسوا أبواب المدينة حراسة دقيقة، وعندما عاد المتسلم وقد كان خارج المدينة من بيت لحم والقرى المجاورة لم يسمح له بدخول المدينة، وانتخب أهالي القدس شخصين من بينهم ليكونا زعيمين لهم وهما يوسف عرب جبجي الجاعوني، وأحمد أغا الدزدار العسلي، وكان من أوائل الإجراءات التي اتخذها الحكام الجدد تخفيض الضرائب وتحرير سكان بيت لحم والقرويين من مسلمين ومسيحيين من معظم الأعشار. ولما علم السلطان بذلك، أمر عبد الله باشا والي صيدا بإخضاع الخونة، فأرسل الباشا على الفور نائبه الكيخيا إلى القدس على رأس ألفي جندي، في البداية رفض زعماء القدس الاستسلام، لكنهم بعد أن أخذت نيران المدفعية تتساقط على المدينة من جبل الطور دون تمييز استسلموا وأعطوا الأمان للخروج من المدينة، وبذلك انتهت هذه الثورة دون سفك دماء.
الحادثة الرابعة : 
وهي من أهم الحوادث التي جرت في عهد السلطان محمود الثاني والتي لم تؤثر في مدينة القدس وحدها وإنما على بلاد فلسطين والشام كلها، وهي إعلان والي مصر محمد على باشا الحرب على عبد الله باشا والي صيدا وعكا، وإرساله جيشًا بقيادة ابنه إبراهيم الذي تمكن من احتلال مدينة القدس ومعظم مدن فلسطين في عام 1831.
وبهذا الاحتلال المصري للمدينة القدسية انتهت الفترة الأولى من حكم العثمانيين لمدينة القدس خلال القرن التاسع عشر.

ثانيًا  القدس في عهد السلطان عبد المجيد ( 1841-1861 ) :

بعد وفاة السلطان محمود الثاني سنة 1839 تولى السلطنة من بعده ابنه السلطان عبد المجيد الذي حاول السير على نهج أبيه في اتباع السياسة الإصلاحية في البلاد، فكان أول عمل قام به عند توليه العرش هو إصدار مرسوم (خط كلخانة الشريف) الذي دشن الفترة الأولى للتنظيمات العثمانية في الفترة الواقعة من عام 1839 إلى 1856م، وقد تضمن المرسوم الأمور التالية:
 صيانة حياة وشرف وممتلكات الرعايا بصورة كاملة بغض النظر عن المعتقدات الدينية .
 ضمان طريقة صحيحة لتوزيع وجباية الضرائب.
 توخى العدل والإنصاف في فرض الجندية وتحديد أمدها.
 بعد أن وضع السلطان عبد المجيد أساس الحكم والعمل في بلاده أقال إبراهيم باشا عن حكم ولاية سوريا في فرمان تاريخه 1840م.
وفي عام 1841 تمكن السلطان عبد المجيد من استعادة بلاد الشام وفلسطين بمساعدة الدول الغربية وبسط السيطرة العثمانية عليها من جديد، وهكذا عادت مدينة القدس تحت الحكم والسيادة العثمانية.
وفي عام 1856 أصدر السلطان عبد المجيد مرسوم الإصلاح الثاني المعروف بـ (خطي همايون) الذي دشن الفترة الثانية للتنظيمات في الفترة الواقعة (1856-1876) والذي يقضى بالمساواة بين جميع الرعايا العثمانيين في الحقوق والواجبات من غير تفريق بين العناصر والمذاهب. وعلى إثر ذلك انتظم المسيحيون في الجندية مثلهم مثل المسلمين.
في أواسط القرن التاسع عشر كان سور المدينة لا يزال يشكل حدود مدينة القدس، ولم تكن هناك أية مبان خارج السور الذي كانت تغلق أبوابه عند الغروب ولا تفتح لأي إنسان يأتي متأخرًا بعد غروب الشمس. وبداخل هذه الأسوار كانت لا تزال هناك مساحات كبيرة من الأراضي تستغل للزراعة، كما كان هناك العديد من البيوت والبنايات المهدمة والمهجورة.
في سنوات الأربعينيات والخمسينيات كان البروتستانت الألمان والإنجليز أول من أقام البنايات الجديدة في داخل وخارج المدينة مثل كنيسة المسيح CHRIST CHURCH التي دشنت سنة 1849، إلا أن الازدهار الحقيقي للبناء في المدينة بدأ في سنة 1856 واستمر بعد ذلك باضطراد دون توقف، وفي سنة 1858 تأسست المسكوبية خارج أسوار المدينة، وبعد ذلك أخذ المقادسة يبنون بعض المساكن خارج السور بجوار المسكوبية كما تم فتح باب صغير في إحدى درفتي كل باب من أبواب السور لتستعمل ليلاً لدخول المتأخرين إلى المدينة.
أما عن الإحصاءات السكانية لمدينة القدس، والتي تعتمد على دفتر النفوس العثماني أن التعداد السكاني للمدينة لسنة 1849 كان كما يلي:
148، 6 نسمة مسلم، 744، 3 نسمة مسيحي، و790، 1 نسمة يهودي، أي ما مجموعه 682، 11 نسمة.
منذ عودة الحكم العثماني للبلاد سنة 1841 وحتى بداية الحرب العالمية الأولى تميزت مدينة القدس تميزًا واضحًا عن غيرها من المدن الفلسطينية والعربية وذلك بتطورها الكبير والسريع والذي كان يعكس الآثار الناجمة عن السياسة العثمانية من جهة، والتدخلات الأوروبية من جهة ثانية، أما تطورها في عهد السلطان عبد المجيد فقد سار في اتجاهين:
أولهما: تطورها الإداري بالنسبة للتقسيمات الإدارية المتبعة في النظام الإداري العثماني.
ثانيهما: تطورها التاريخي لتميزها الديني وليس لتميزها الجغرافي أو الاقتصادي.

أولاً: التطور الإداري لمدينة القدس:
في عشية الاحتلال المصري لبلاد الشام وفلسطين بالتحديد في سنة 1830م وحّد الباب العالي حكم فلسطين بسناجقها الثلاثة ( القدس- نابلس  عكا ) في يد والي عكا. واستمر الحال كذلك في إبان الحكم المصري لفلسطين في الفترة
( 1831- 1841 ) حيث كانت عكا هي العاصمة الفعلية لسناجق فلسطين الثلاثة.
وبعد عودة السيادة العثمانية على البلاد عام 1841 عمل العثمانيون على الاستمرار في اتباع سياسة التنظيمات الإدارية التي كانت متبعة منذ عهد محمد علي في البلاد مع المحاولة على التأكيد على أهمية سنجق القدس، فجعلوا مدينة القدس هي العاصمة المركزية للمناطق الفلسطينية الوسطى والجنوبية، كما أصبحت أقضية غزة ويافا تابعتين لسنجق القدس بشكل دائم، وحتى عام 1858 كان سنجق نابلس تحت سلطة حاكم القدس.
وهكذا برزت مدينة القدس كمركز للإدارة المركزية في فلسطين وهى إحدى التطورات الإدارية الهامة في فلسطين خلال القرن التاسع عشر.

ثانيًا: التطور التاريخي لمدينة القدس:
كنتيجة للاحتلال المصري لفلسطين وبلاد الشام توضحت الأهمية الاستراتيجية للمنطقة وخصوصًا أهميتها للتجارة الدولية وتوسطها بين الشرق والغرب على خطوط المواصلات العالمية.
وبما أن الغرب في ذلك الوقت كان في بداية عصر الإمبريالية والتطور الصناعي والتوسع الاقتصادي، فقد توجهت سياسات دوله الكبرى نحو المنطقة بشكل عام والمدينة القدسية بشكل خاص. وبما أن العثمانيين لم يكن بإمكانهم التراجع عن سياسة الانفتاح على العالم بشكل عام والغرب بشكل خاص، والتي اتبعها المصريون في البلاد خصوصًا وأن عودة السيادة العثمانية على البلاد قد تمت بمساعدتهم، فقد توالى إلى فتح القنصليات الغربية في مدينة القدس وهى المدينة التي لم يكن بإمكان أي دولة أن تقيم لها أي وجود فيها خلال العهد العثماني السابق للحكم المصري.
بعد أن تم افتتاح أول قنصلية غربية في مدينة القدس عام 1838م في إبان الحكم المصري لفلسطين وهى القنصلية الإنجليزية، تبعها افتتاح العديد من القنصليات الأجنبية نتيجة لتغير المناخ الدولي بعد حرب القرم، ففي عام 1856 تم افتتاح قنصلية بريطانيا للمرة الثانية، كما افتتحت نهائيًا قنصلية فرنسا وفي سنة 1857 افتتحت قنصلية لأمريكا. وفي سنة 1862 افتتحت قنصليتان لروسيا واليونان، فأصبح عدد القنصليات الأوروبية في القدس ثمانية. ولقد تم كل ذلك في عهد متصرف القدس كامل باشا الذي أمر بأن تطلق المدافع إحدى وعشرين طلقة تحية لأعلام هذه القنصليات عند رفعها، وكان أهل القدس يقابلون كل هذه المراسم باحتجاج وغضب شديدين.
لم يقف التوجه الغربي نحو المدينة المقدسة بفتح القنصليات فقط، وإنما وجدت الدول الغربية أن أسهل وأسرع الطرق لبسط نفوذها في المنطقة هو من خلال بسط حمايتها على الأقليات غير الإسلامية في الدولة العثمانية، فمثلاً لم يكن لبريطانيا وكنيستها الإنجيلية أية حقوق أو مصالح تدعيها في علاقتها بالمدينة القدسية، فعمدت إلى ادعاء قيام قنصليتها بالمدينة القدسية لحماية اليهود ولرعاية مصالحهم. فقد تلقى القنصل البريطاني الأول يونغ YOUNGتعليمات بأن يعتبر الحماية العامة لليهود جزءًا هامًا من مهام وظيفته، كما أصبحت هذه المهام عزيزة للغاية على خلفه المستر جميس فن JAMES FINN الذي تولى منصبه في ربيع سنة 1846 حتى عام 1862.
وبما أنه لم يكن للبروتستانت أي قاعدة مؤسسية في الأراضي المقدسة، تم خلق هذه القاعدة بتأسيس أسقفية إنجليزية بروسية في القدس سنة 1841 وبناء كاتدرائية بروتستانتية وهى كنسية المسيح CHRIST CHURCH التي أنشئت سنة 1849.
وفي عام 1850 تمكن البروتستانت من الحصول على الاعتراف بهم كطائفة دينية رسمية في الدولة العثمانية، مما دعم الدور البريطاني في ممارسة وظيفة الحماية لليهود والبروتستانت معًا.
بعد تأسيس الأسقفية البروتستانتية، تلاه قدوم العديد من البطاركة إلى مدينة القدس واتخذوها مركزًا لهم بدلاً من القسطنطينية، ففي سنة 1847 عين البابا بيوس التاسع أول بطريرك لاتيني بمدينة القدس هو البطريرك يوسف فالرغا JOSEPH VALERGA ، في حين هذا المنصب لم يكن له أي وجود فعلي في المدينة من قبل.
هذا وقد اعتبرت فرنسا تعزيز الوجود الكاثوليكي في فلسطين مهمتها الرئيسية، والأكثر إلحاحًا للسياسة الفرنسية في الأراضي المقدسة، كما عمدت الكنيسة الكاثوليكية على تشجيع الجاليات والإرساليات الكاثوليكية للهجرة من شتى بقاع العالم إلى مدينة القدس والإقامة فيها.
ومن الحوادث الهامة التي جرت في عهد السلطان عبد المجيد وكان لها تأثير كبير في ازدياد التغلغل الديني والثقافي الأوروبي في مدينة القدس، هي حرب القرم التي نشبت بين روسيا والدولة العثمانية في الفترة الواقعة بين 1853-1856 وسببها اشتداد الخصام بين الروم الأرثوذكس واللاتين حول النجمة الفضية التي اختفت من كنيسة المهد في مدينة بيت لحم، واتهم اللاتين الروم بسرقتها، ولما ناصرت الحكومة العثمانية اللاتين وأصدرت في سنة 1852 إذنًا لهم بتسلم مفاتيح بابين من أبواب مغارة المهد وأن يضعوا نجمة من الفضة للكنيسة، احتجت روسيا وطالبت الباب العالي بالاعتراف بحمايتها للروم الأرثوذكس في الدولة العثمانية، وعندما أعلن الباب العالي رفضه هذا الأمر، أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية، فناصر الفرنسيون والإنجليز العثمانيين وتم قهر الروس، وعقدت على إثر ذلك معاهدة الصلح في باريس في 30 آذار سنة 1856.
ومن الآثار المترتبة على حرب القرم، دخول الدول الأوروبية في سباق فيما بينها من أجل تأمين الامتيازات الأوروبية والوجود الديني والثقافي الأوروبي في مدينة القدس، كما انتشرت في هذا الوقت الدعوة بصورة مكشوفة إلى الامتلاك الفعلي للأراضي المقدسة، وذلك على الرغم من حرص الدول الغربية على الحفاظ على وحدة أراضي الدولة العثمانية، وذلك من خلال التعليمات الموجهة إلى قناصلها في المدينة لأن التغلغل الأوروبي لم يكن يهدف إلى السيطرة الإقليمية وإنما إلى بسط نفوذه السياسي في المنطقة.
كما أخذت شركات الملاحة تعرج بانتظام إلى المواني الفلسطينية وتجلب جماعات من الحجاج والمسافرين إلى الأراضي المقدسة، حتى أنه في أيام الأعياد كانت تزدحم مدينة القدس بأعداد الحجاج الذي كان يفوق عدد سكان المدينة أحيانًا.
كذلك اتجه الرأي الروسي إلى ضرورة تأسيس وجود روسي في فلسطين، ففي سنة 1856 تم تأسيس شركة الملاحة البخارية الروسية التي كان من شأنها أن تزاحم خطوط البحر المتوسط الفرنسية والنمساوية وأن تنتزع منها بشكل خاص أشغال نقل الحجاج الروس إلى فلسطين.
وفي سنة 1857 كتبت وزارة الخارجية الروسية في تقرير إلى القيصر تقول فيه: ( ينبغي علينا أن نبني وجودنا في الشرق لا عن طريق السياسة بل عن طريق الكنيسة، فلا الأتراك ولا الأوروبيون الذين لديهم بطاركتهم وأساقفتهم في المدينة القدسية بمقدورهم أن يمنعونا ذلك إن القدس هي مركز العالم وإرسالياتنا ينبغي أن تكون هناك).
وفي سنة 1858 وصل إلى القدس في وقت واحد أسقف روسي وقنصل روسي (وكيل شركة الملاحة) كما نقل في السنة نفسها بطريرك الأرثوذكس الذي كان يقيم حتى ذلك الوقت في القسطنطينية إلى المدينة المقدسة.
وهكذا تحولت مدينة القدس من كونها مسرحًا للصراع المحدود بين الطوائف المسيحية المتنازعة، لتصبح ميدانًا تتصارع فيه كل القوى الدولية من أجل بسط نفوذها السياسي.
من أهم الأحداث التي جرت في مدينة القدس في عهد السلطان عبد المجيد ما يلي:
 في سنة 1853 تم ترميم مسجد الصخرة بإرشاد مهندس أرمني خبير ببناء القباب اسمه (قرة بت) حيث قام بتقوية القبة، ورمم بعض النقوش والزينات الداخلية.
 في سنة 1854 حاول اليهود الاستفادة من تمتعهم بالحماية البريطانية في أنحاء الدولة العثمانية، فتقدموا إلى الباب العالي للسماح لهم بتعمير محل عتيق على اعتبار أنه كنيس قديم يحتاج إلى إعادة تعمير ولما جرى الكشف عنه تبين أنه دير قديم، ولما لم يجابوا إلى طلبهم، أعلمهم القنصل البريطاني بالقدس أن يثيروا قضية سمح فيها ببناء كنيسة لطائفة البروتستانت، فنجحوا في مأربهم وصار لهم كنيس خاص بالسكناج يقابل كنيس السفارديم.
 وفي ذات العام 1854 حصل السير منتغيوري على فرمان من السلطان عبد المجيد استطاع بموجبه شراء الأراضي في مدن يافا والقدس، وقد كان هذا محظورًا من قبل. فكانت القطعة التي اشتراها في مدينة القدس بموجب هذا الفرمان أول أرض يمتلكها اليهود الأجانب في البلاد، وهذه القطعة هي (يمين موشيه) فوق بركة السلطان، وقد أقيم على هذه الأرض فيما بعد حي يهودي دعي منتغيوري ولا زال يعرف بهذا الاسم حتى يومنا هذا.
4  وفي سنة 1856 صدر فرمان سلطاني لمتصرف القدس بتسليم (الصلاحية) لقنصل فرنسا بالمدينة المقدسة، حيث قدمت كهدية من السلطان عبد المجيد إلى نابليون الثالث إمبراطور فرنسا، فسلمت للقنصل الفرنسي وبنى لها سورًا وحصنها.
5  في سنة 1860 تم تأسيس أهم مؤسسة تعليمية غربية في مدينة القدس هي مدرسة (شنلر) للأولاد الأيتام.
6  وفي ذات العام 1860 عمر ثريا باشا متصرف القدس قناة السبيل التي تستقي القدس بواسطتها الماء من برك سليمان.
7  في أواخر أعوام الستينيات تمكن وارن WARREN من إحصاء 1932 تاجر وحرفي مقدسي يعملون في 1320 محلاً تجاريًا منهم 143 متجرًا عام – 88 تاجر خضار – 189 متجرًا للسلع التموينية -101 مخبز – 46 بائع لحوم ودجاج – 58 تاجر خمور – 30 طحانا للبن – 37 بائع تبغ – 230 حذّاء (صانع أحذية) – 62 خياطًا – 28 صباغا – 32 طاحن سمسم – 76 صبانًا (صانع صابون) – 151 حدادًا – 36 نجارًا – 86 صانع نعوش – 56 حلاقًا – 23 ساعاتيًا – 22 صرافًا وهذه القائمة قد تمت بـ 828 مسلمًا، و601 مسيحي و503 يهوديين.

ثالثًا – القدس في عهد السلطان عبد العزيز:

بعد وفاة السلطان عبد المجيد عام 1861 تولى حكم السلطنة العثمانية من بعده أخيه السلطان عبد العزيز، الذي تابع الحركة الإصلاحية في البلاد والتي كانت تتحرك خلال فترة التنظيمات الثانية على الأصعدة الإدارية والمالية والعسكرية، فانبثق عنها تحسن الأمن العام في أرجاء الدولة، وتوسع إمكانيات الاتصالات والازدهار الاقتصادي، غير أنه لم تكن هناك سياسات حقيقية في الدولة العثمانية بشأن التحتية أو الشئون الاجتماعية أو الاقتصاد أو التعليم.
غير أن مدينة القدس تميزت عن غيرها من المدن العثمانية في عهد السلطان عبد العزيز بتطورها الحضاري المتميز في مجالات شتى منها:
أولاً: التطور الإداري
حتى أواخر الخمسينيات من القرن التاسع عشر كانت المدن الفلسطينية ومنها مدينة القدس المسرح الرئيسي للتنافس والصراع على السلطة بين العائلات والشيوخ الحاكمة مع السلطات العثمانية.
إلا أن الأمر اختلف في عهد السلطان عبد العزيز حيث كان المسئولون في القسطنطينية في ذلك الوقت على اقتناع تام بأن التنظيم الإداري الذي يقوم على أساس المرسوم الصادر باسم (خطي همايون) سنة 1856م لا يمكن تنفيذه إلا من قبل حكومة مركزية وقوية وحازمة. لذا تم وضع قانون الولايات سنة 1864م الذي فصل القضاء عن الإدارة وقوى سلطة الحكومة المركزية في ولاياتها، كما قام بتجريد الزعماء المحليين في مختلف أنحاء الدولة العثمانية من السلطة وتم الاستعاضة عنها باستحداث المجالس المحلية مثل المجالس البلدية والمجالس الإدارية، فكانت مدينة القدس هي أولى المدن بعد القسطنطينية في تقبل مثل هذه المؤسسات، مما أدى هذا الأمر إلى تطورها الإداري الواضح والكبير، كما أصبحت مسرحًا رئيسًا للتنافس السياسي والمالي وبروز القادة السياسيين من أفراد العائلات العريقة في المدينة مثل آل الحسيني وآل الخالدي.
 مجلس إدارة سنجق القدس:
منذ عودة السيادة العثمانية على بلاد الشام وفلسطين عام 1841، استمر حكم وإدارة سنجق القدس تابعًا لولاية دمشق حتى عام 1872 حينما حاول العثمانيون إعادة توحيد حكم سناجق فلسطين الثلاثة (القدس – نابلس – عكا) في ولاية القدس المستقلة، إلا أن الحكومة العثمانية سرعان ما ألغت هذا الإجراء في نفس العام وأبقتها لولاية دمشق.
وفي عام 1874 أصبح سنجق القدس مستقلاً، وأصبح حاكم القدس مسئولاً مباشرة من وزارة الداخلية في القسطنطينية.
كان مجلس إدارة السنجق يضم كلا من المتصرف  القاضي- المفتي – أمين الخزنة – وممثل عن الطائفة الأرثوذكسية اليونانية وممثل عن الطائفة اللاتينية، وممثل عن التجمعات الأمريكية واليهودية، مع مجموعة من الأعضاء المنتخبين وفي الغالب كانوا هم أنفسهم أعضاء المجلس البلدي لمدينة القدس.
وبالنسبة لقانون إدارة الولاية عام 1871، كان مجلس الإدارة مخولاً بسلطة النظر في الأمور والأعمال العامة مثل الزراعة  تسجيل الأراضي – الأموال – جمع الضرائب – رجال الأمن، إلا أن أهم أعماله كانت تتعلق بجمع الضرائب.
 المجلس البلدي لمدينة القدس:
في العام 1863م تم تأسيس أول مجلس بلدي لمدينة القدس، وذلك وفقًا لفرمان خاص صدر في عهد السلطان عبد العزيز بن محمود الثاني وولاية خورشيد باشا متسلم القدس، وتم تشكيله من خمسة أعضاء معينين ثلاثة من المسلمين ومسيحي واحد ويهودي واحد، وكان يرأسهم العضو عبد الرحمن الدجاني، لكن هذا المجلس لم يباشر أعماله فعليا إلا في العام 1867م، حيث يعزو البعض ذلك إلى عدم وجود قانون ينظم أعماله.
ومع صدور قانون إدارة الولايات في العام 1871م لوحظ بعض النشاط المتزايد للمجلس البلدي، إلا أن نشاطه أضحى أكثر بروزا بعد صدور قانون البلديات سنة 1877م الذي حدد مهام ومسئوليات وواجبات المجالس البلدية وطرق تشكيلها، ونص على وجوب تشكيلها من ستة إلى اثنى عشر عضوًا ينتخبون لمدة أربع سنوات على أن يتم استبدال نصفهم كل عامين، أما الرئيس فيعينه الحاكم من بين الأعضاء المنتخبين.
أما فيما يختص بقوانين الانتخاب والترشيح للمجلس البلدي، فقد كانت تنص على أن كل مواطن عثماني بلغ سن 25 عامًا وقام بتسديد جميع الضرائب السنوية المترتبة عليه والتي لا تقل عن 50 دينارًا تركيا يحق له الانتخاب في المجلس البلدي.
أما بالنسبة للمرشحين فيجب أن لا يقل عمر الواحد منهم عن 30 عامًا وأن يكون مسددًا لضرائب الأملاك والتي يجب أن لا تقل عن 150 دينارًا تركيًا في السنة.
وبناءً على صدور قانون البلديات الجديد تم إعادة انتخاب مجلس بلدي موسع لمدينة القدس مؤلف من عشرة أعضاء 6 من المسلمين و2 من المسيحيين و2 من اليهود.
ومن أوائل الشخصيات المقدسية التي تولت رئاسة المجلس البلدي السيد يوسف الخالدي، الذي ترأس المجلس البلدي للمدينة المقدسة لمدة تسع سنين متتالية، وكان له تأثير كبير في تقدم وتطور المجلس البلدي في تلك الفترة، حيث سعى المجلس البلدي إلى تطوير أوضاع المدينة من حيث التركيز على النشاطات الأولية من إضاءة وتنظيف للمدينة، وتحسين ورصف شوارعها وأسواقها، لكن أهم مسئولياته وأكبرها كانت تأمين موارد المياه للمدينة، فقام بإجراء عدة إصلاحات على قناة السبيل التي كانت تمد القدس بالماء من برك سليمان.

ثانيًا: الازدهار العمراني
إن من أهم سمات التطور الحضاري الذي شهدته مدينة القدس في عهد السلطان عبد العزيز هو الازدهار العمراني الكبير والمتميز في داخل أسوار المدينة وخارجها. ففي خلال السنوات العشر التالية لحرب القرم سنة 1856، تم تنفيذ 24 مشروعًا عمرانيًا كبيرًا في داخل وخارج أسوار المدينة، بالإضافة إلى المجمع الروسي الكبير (المسكوبية) الذي شيد في منطقة الميدان الكائنة شمال غرب المدينة في عهد السلطان عبد المجيد.
ومنذ أواخر الستينيات حدث اندفاع وتوسع في بناء دور سكن جديدة، أو زيادة الطوابق على المباني القائمة في داخل المدينة، كما أقيمت مبان لليهود في الجهة الشمالية الغربية للمدينة وعلى جانبي الطريق المؤدية إلى يافا، كما تم افتتاح العديد من المدارس التبشيرية الألمانية الغربية في المدينة، منها المدرسة التبشيرية تاليتا قومي TALITA KUMI وهى مدرسة خاصة للبنات أسست عام 1868.
وفي ذات العام 1868 زار مدينة القدس الأمير فريدريك ولى عهد بروسيا، فأهداه السلطان عبد العزيز قطعة أرض كانت في الأصل تؤلف قسمًا من المستشفى الصلاحي، حيث بني عليها فيما بعد كنيسة حملت اسم (كنيسة الدباغة) أو كنيسة المخلص، التي دشنها الإمبراطور غليوم يوم زيارته إلى القدس عام 1898. وفي بداية السبعينيات وبالتحديد في عام 1871 أمر السلطان عبد العزيز بتعمير مسجد المغاربة بالقدس.
وفي عام 1873 تم إنشاء مستعمرة ألمانية في الجهة الجنوبية الغربية للمدينة وسكنها 257 شخص، كان معظمهم من الصناع المهرة وعائلاتهم.
وفي عام 1874 تم تعمير قبة الصخرة ومسجدها والمسجد الأقصى، حتى قيل إن التعميرات التي تمت في المسجد الأقصى تعد من أضخم التعميرات التي لحقت به بعد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان. ويقول الخبراء إن هذه العمارة كلفت خزانة الدولة العثمانية مقادير كبيرة من الذهب الخالص، وقد اعتبر عمله هذا إسرافًا، فكان من جملة الأسباب التي أدت إلى خلعه.
وفي خلال أعوام السبعينيات أنشئت تجمعات سكنية يهودية خارج أسوار المدينة على شكل عمارات سكنية وبيوت مبنية في صفوف موحدة الشكل وشبيهة بالثكنات، وذلك لمواجهة الحاجة الملحة للأعداد المتزايدة من المهاجرين اليهود. في حين أخذت كذلك العائلات الإسلامية الثرية في التوسع بسكانها وأماكن إقامتها خارج أسوار المدينة وفي الجهة الشمالية منها.
ثالثًا : التطور الاقتصادي
بعد انتهاء حرب القرم سنة 1856 انهالت الأموال بكثرة ساحقة من أوروبا على المدينة المقدسة، مما أفاد السكان المحليين من تزايد الإنفاق وخاصة فيما يتعلق بأعمال البناء والتعمير كأثمان للمواد والأجور، فكان للازدهار العمراني الذي شهدته مدينة القدس مورد اقتصادي هام للمدينة وأهلها، كما أدى كذلك إلى انتفاع القرى والمدن المجاورة لها.
فقد راجت أعمال الكلاسين (صناع الجير) ودقاقين الحجارة رواجًا شديدًا، وفي كل يوم كانت تتحرك قوافل كاملة من الجمال المحملة بالجير والأحجار والخشب إلى مدينة القدس. وكان الأمر في البداية يقضي بجلب المعماريين ودقاقين الحجارة من خارج فلسطين كما حدث عند بناء كنيسة المسيح، حيث جلب هؤلاء من مالطا، لكن ما أن بدأت أعمال البناء والتعمير بالرواج في أعوام الستينيات حتى أصبحت تتوفر هذه المهارات محليًا وخصوصًا من مدينتي بيت لحم وبيت جالا القريبتين من القدس. فقد نشأ فيها تخصص حرفي لتلبية متطلبات مهنة البناء خاصة وأن العاملين في تلك المهنة كانوا يتقاضون أجورًا جيدة.
وفيما عدا النشاط العمراني للمدينة وما صحبه من إنفاق، فإن المدينة عاشت في معظمها على الموارد الدينية سواء من إنفاق المؤسسات التبشيرية، أو من قدوم الحجاج وزيارتهم للمدينة وما صحبه من تأمين للخدمات والسلع المختلفة.

رابعًا: تطور الاتصالات
شهدت مدينة القدس في أعوام الستينيات من القرن التاسع عشر تقدمًا وتطورًا واضحين في وسائل الاتصال من تلغراف وإنشاء وتعبيد لطرق جديدة تصل المدينة المقدسة بباقي المدن الفلسطينية.
ففي شهر آب من عام 1864 وصل خط التلغراف إلى مدينة يافا ومنه وصل الخط إلى مدينة القدس في شهر حزيران من عام 1865م، وهكذا أصبحت مدينة القدس مربوطة بالتلغراف مع كل من القسطنطينية والقاهرة، ومن خلالهم إلى العواصم الأوروبية المختلفة، هذا الاتصال بالعالم الخارجي من خلال التلغراف كان له أهمية كبرى للمدينة خاصة بعد انفصالها عن دمشق عام 1874 واتخاذها صفة الاستقلالية، واتصالها مباشرة بالقسطنطينية.
أما عن إنشاء وتعبيد الطرق الواصلة للمدينة، ففي عام 1867 بدأت السلطات العثمانية بإنشاء وتعبيد أول طريق بين يافا والقدس عن طريق أعمال السخرة وتحت إشراف المهندس الإيطالي بيروتي PIEROTTI ، وتم فتح الطريق للسير عليه سنة 1867م. وفي عام 1870م تم تعبيد الطريق الواصل بين القدس ونابلس إلا أن تعبيد الطريق الواصل بين يافا والقدس لم يكن بالعامل المؤثر في ازدياد التبادل التجاري مع المركز التجاري لمدينة القدس، وإنما كان عاملاً مساعدًا في تسهيل عمليات السفر والانتقال من وإلى المدينة.
في بادئ الأمر عمل رئيس بلدية القدس آنذاك يوسف الخالدي على تشغيل عربات نقل عادية للخدمة على الشارع الجديد، لكن في عام 1875 تمكن فرسان المعبد من تأسيس أول شركة نقل لتسيير رحلات يومية منتظمة بين يافا والقدس. وفي عام 1879 تمكنوا من الحصول على امتياز حكومي لعملهم هذا فقدوا منافسة العرب واليهود لهم.
وفي العام 1876م أطاح السلطان مراد الخامس بن عبد المجيد بعمه السلطان عبد العزيز ليقوم مقامه، لكنه لم يلبث على عرش السلطنة أكثر من بضعة أيام لكونه مصابًا بمرض الصرع، وبتاريخ 31 آب 1876م نودي بأخيه الأصغر منه عبد الحميد الثاني بن عبد المجيد سلطانًا على البلاد.
عند تولى السلطان عبد الحميد الثاني حكم السلطنة وجد البلاد تعاني من ضائقة مالية شديدة، والخزانة العامة خاوية أدت إلى إشهار إفلاسها سنة 1875م وانعكس ذلك على وضعها العسكري مما هدد كيانها ووجودها، في حين كانت روسيا تهدد بالحرب وأوربا تظهر العداء والعنت الصريحين للعثمانيين.
كل ذلك دفع العثمانيين إلى زيادة الاهتمام بالولايات السورية ومن جملتها فلسطين لزيادة فاعلية وضعهم المالي والعسكري عن طريق فرض الضرائب العادية منها وغير العادية، وكانت عمليات جمع الضرائب هي المحك لكفاءة وقدرة الحاكم، ولم يكن يقبل أي عذر لأي فشل أو إهمال في هذا الشأن، كما كان يترتب على سكان السناجق تقديم كميات من المؤن (الذخائر) إلى الوالي وجنده، وكان عدم الامتثال لذلك يواجه بعقوبات قاسية جدًا، هذا إضافة إلى تكثيف عمليات التجنيد الإجباري التي كانت تتم في المناطق دون هوادة، مما دفع البلاد إلى مزيد من الفوضى والفساد وتنامي روح الثورة ضد الجور والظلم.
وبتاريخ 7 من ذي الحجة سنة 1293هـ/1876م وبتأثير من الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) مدحت باشا أعلن السلطان عبد الحميد الثاني القانون الأساسي للدولة (الدستور) الذي بموجبه منح الشعب حرية القول والعمل والاجتماع، كما أمر السلطان عبد الحميد الثاني بانتخاب مجلس العموم والمؤلف من مجلسين، وهما الأعيان ومجلس المبعوثان (النواب).
إلا أن البلاد العثمانية لم تنعم بهذه الحرية زمنًا طويلاً، إذا لم ينقض سنتان على نشر الدستور إلا وقام السلطان عبد الحميد الثاني متذرعًا بإعلان روسيا الحرب على بلاده سنة 1877 بإصدار قانون يعطل العمل بالدستور، وفي سنة 1878 حل البرلمان وأغلق (ضولمة باغجة) التي كان يجتمع فيها مجلس المبعوثين، وعمل على مناوئة كافة الجهود الوطنية للإصلاح، ونفى مدحت باشا إلى خارج البلاد وكان ذلك لثبات اعتقاده وإيمانه بوجوب الحكم المطلق في يده، فراح يدير ويحكم البلاد وفق إرادته الشخصية مما دفع البلاد إلى عهد جديد من الطغيان وسواء استغلال السلطة وفسادها.
لكن سوء الأوضاع في البلاد العثمانية دفع ببعض المثقفين الأتراك لتأليف جمعية الاتحاد والترقي التي دعت إلى إقامة حكومة دستورية تدخل النظم الحديثة في الإدارة والجيش، وتحقق الحرية والمساواة وتوقف تدخل الدول الأوروبية في شئون الدولة العثمانية. وعمل أعضاء هذه الجمعية على نشر الدعوة سرًا بين قوات الجيش الذي انضم أغلبه إليها.
وفي 3 تموز سنة 1908م تم إعلان الثورة على الحكومة مطالبين بإسقاطها الأمر الذي أجبر السلطان عبد الحميد بتاريخ 25/7/1908م على معاودة إعلان العمل بدستور 1876 بعد تعطيله مدة إحدى وثلاثين سنة وإطلاق الحريات العامة.
وبعد بضعة أشهر وبالتحديد بتاريخ 13/4/1909م حاول السلطان عبد الحميد الثاني القيام بثورة مضادة للتخلص من الجمعية ومن الدستور ومن مجلس المبعوثين، عندئذ زحف الجيش من سالونيك إلى الأستانة وأعاد إلى جمعية الاتحاد والترقي نفوذها، فعمل أعضاؤها على إسقاط السلطان عبد الحميد عن عرشه وأقاموا مقامه أخاه محمد رشاد سلطانًا باسم محمد الخامس في 17/4/1909م.

رابعًا – القدس في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909):

على الرغم مما شهدته مختلف البلاد العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني من تراجع حضاري واضح، وتدهور كبير في أوضاعها الاقتصادية والأمنية إلا أن مدينة القدس تميزت عن باقي المدن الفلسطينية والولايات السورية باستمرار نموها وتطورها الحضاري الناجم عن السياسة العثمانية التي عمدت خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر على تأكيد أهمية سنجق القدس بفصله عن ولاية الشام وارتباطه مباشرة بالأستانة عام 1847، ومحاولة السلطات العثمانية دعم وتثبيت وجودها الإداري في فلسطين قبالة الحكم المصري السابق من ناحية، وبشكل أقوى وأكبر أمام الدول الأوروبية من ناحية ثانية.
كما عملت على الاستمرار في سياسة الانفتاح التي اتبعها محمد علي باشا وولده إبراهيم باشا في المدينة المقدسة والتي لم يعد بإمكان العثمانيين التراجع عنها، وكذلك ازدياد الاهتمام والصراع الأوروبي الغربي فيما بينها لبسط نفوذها في المنطقة بحجة الأقليات الدينية التابعة لها من خلال فتح قنصليات جديدة في القدس في عهد السلطان عبد الحميد، غير تلك التي فتحها في عهد سلفه السلطان عبد المجيد، ففي عام 1885 بدأ قنصل ألمانيا بالعمل في القدس بصفته مندوبًا عن إمبراطور ألمانيا وملك بروسيا، وفي عام 1886 اعترفت الحكومة التركية بوجود ملحق تجاري في القدس لدولة العجم (إيران) وفي عام 1888 اعترفت أيضًا بوجود قنصل روسي يحمي المصالح الروسية في القدس.
كان القنصل المعين عند وصوله إلى مدينة القدس عليه أن يقدم أوراق اعتماده إلى المتصرف والنائب، مرفقًا بها رسالة توصية من ولاة الأمر في الأستانة تشتمل على اسمه واسم سلفه والمدة التي سيمكثها في القدس، وصلاحياته تجاه رعاياه والامتيازات التي يتمتع بها، مع الطلب بأخذ جميع التدابير اللازمة لحمايته.
أما النمو والتوسع الحضاري الذي شهدته المدينة فيتمثل في الأوجه التالية:
أولاً: النمو السكاني
إن الإحصاءات العثمانية للتعداد السكاني لمدينة وقضاء القدس بين عامي 1871-1914 يبينها الجدول التالي:
إجمالي العدد
اليهود
المسيحيون
المسلمون
السنة
الموقع
14.358
3.780
4.428
6.150
1871-1872
مدينة القدس
81.059
7.105
19.950
54.364
1881-1893
قضاء القدس
120.921
18.190
32.461
70.270
1914
قضاء القدس
إن أرقام التعداد السكاني لعامي 1871-1872 تعتمد على دفاتر سلنام ولاية سوريا، وأرقام التعداد للأعوام 1881-1893 والتي تشمل كافة قضاء القدس بما فيه المدينة تعتمد على الإحصاء الذي تم فعليا على السكان، أما أرقام التعداد لعام 1914 فهي تعتمد على الإحصاءات السكانية لوزارة الداخلية العثمانية.
لكن الإحصاءات العثمانية وحسب الجدول السابق تعتمد على تعداد سكان ومواطني الدولة فقط، في حين كانت هناك أعداد كبيرة من اللاجئين اليهود وبعض رعايا الدول الأخرى من الأجانب لم يتم إحصاؤهم.
وعلى الرغم من صدور قانون 1882 الذي يحرم هجرة اليهود إلى فلسطين وشراءهم الأراضي فيها بعد أن تفاقم أمر هجرتهم إلى فلسطين بقصد الاستيطان فيها، فقد دلت إحصاءات عثمانية تمت في عامي 1895-1899 بوجود ما يقارب 5500 أجنبي في كامل سنجق القدس، أكثرهم من اللاجئين اليهود الذين ازدادت أعدادهم كثيرًا خلال العقدين السابقين للحرب العالمية الأولى، وذلك من خلال استغلالهم للأوامر السلطانية الصادرة عام 1900م إلى متصرف القدس، والتي تقضي بالسماح لليهود إلى مدينة القدس والإقامة فيها بصورة غير مشروعة، وذلك لفساد الإدارة العثمانية وتفشى الرشوة بين موظفيها.
وهكذا يتضح لنا من خلال الإحصاءات العثمانية لمواطني القدس أن النمو السكاني المضطرد الذي شهدته المدينة في أواخر القرن التاسع عشر إضافة إلى ازدياد أعداد المهاجرين إليها من اليهود جعلها عشية الحرب العالمية الأولى من أكبر مدن فلسطين من حيث التعداد السكاني بالإضافة إلى النواحي الحضارية الأخرى.
ثانيًا: التوسع العمراني والحضاري
شهدت مدينة القدس منذ أعوام السبعينيات من القرن التاسع عشر توسعًا كبيرًا في البناء والتعمير خارج أسوار المدينة، خاصة بعد أن تم شق وتعبيد الطريق الواصل بين مدينتي يافا والقدس سنة 1867م الذي سهل كثيرًا من عمليات نقل واستيراد مواد البناء من وإلى القدس على عربات دون عناء.
في أواخر السبعينيات ونتيجة للتوسع العمراني إلى خارج الأسوار أصبحت أبواب المدينة تفتح طوال الليل وفي أوقات صلاة الظهر من يوم الجمعة.
ومنذ أوائل أعوام الثمانينيات بدأ المقدسيون في اتباع طرق حديثة في بناء المساكن المقامة خارج الأسوار حيث أصبحت جدران المباني أقل سمكًا وغرفها مسقوفة بأعمدة خشبية، وكذلك أرضياتها من الخشب، ومن ثم تطورت عمليات البناء إلى بناء الأسقف من الأعمدة الحديدية والأرضيات من البلاط الحجري، كما تم تغطية خشب الأسقف بحجر القرميد الأحمر وهكذا بدأت في الظهور مدينة القدس الجديدة ذات الطابع الأوروبي والتي أخذت تنمو وتكبر إلى جانب مدينة القدس التاريخية.
أما المباني التي أقيمت للمهاجرين اليهود الجدد في المنطقة المجاورة للناحية الشمالية الشرقية من القدس القديمة، فقد أخذت أيضًا في النمو والتوسع لازدياد أعدادهم من جهة، ولسهولة حصولهم على أراض للبناء خارج المدينة لكونها أراض غير مملوكة للحكومة أو الأفراد أي مشاع. أما التجمعات اليهودية المقامة في داخل المدينة فقد كانت تعمل في الغالب على استئجار مساكن لها من الأوقاف الإسلامية.
هذا وقد تم إجراء العديد من أعمال البناء والتعمير في داخل المدينة المقدسة في عهد السلطان عبد الحميد، حيث تم بناء وتعمير العديد من المنشآت المائية منها تعمير السبيل الكبير المعروف بسبيل قايتباي، وقناة السبيل عام 1899م كما أنشئ السبيل الذي كان قائمًا تجاه باب الخليل إلي الغرب سنة 1907م كما أقيم برج الساعة فوق باب الخليل في ذات العام 1907م.
وقيل إن السلطان عبد الحميد أنفق على تعمير الحرم وزخرفته ثلاثين ألف ليرة عثمانية خلا الطنافس المختلفة الألوان التي اتخذت فرشًا، وبلغت قيمتها عشرة آلاف ليرة عثمانية.
ثالثًا: تطور خطوط المواصلات
من المشاريع المهمة التي أقيمت في عهد السلطان عبد الحميد وكان لها أثر كبير في انتعاش اقتصاد المدينة والمناطق المحيطة بها هو مد سكة الحديد بين القدس ومدينة يافا المطلة على البحر المتوسط بطول 86.630 كم وقد حصلت على امتياز تنفيذه شركة فرنسية عام 1889 وبدأ العمل بإنشائه في عام 1890، وتم الانتهاء منه وتشغيله في عام 1892م.
ومع نهاية القرن التاسع عشر قدرت الأرباح العائدة من تسيير الخط الحديدي بمبالغ طائلة من الأموال، حيث قدر عدد المسافرين من الحجاج والزوار بـ 85.440 مسافرًا في العام 1893 و149.200 مسافر في العام 1909م.
كما قامت السلطات العثمانية في القدس بإنشاء شبكة من الطرق الجديدة في أوائل التسعينيات من القرن التاسع عشر، وصلت المدينة المقدسة بباقي المدن في وسط وجنوب فلسطين منها رام الله – بيت لحم  الخليل  أريحا.
رابعًا: تطور البنية التحتية
من الأمور التي ساهمت في تطوير المدينة حضاريًا تمتعها بالمجلس البلدي الذي كان قائمًا والذي سعى جاهدًا في اتباع الإجراءات الضرورية اللازمة لتحسين البنية التحتية للمدينة والأوضاع المعيشية لسكانها.
في أوائل السبعينيات بدأت بلدية القدس إجراءاتها النشيطة لتنظيف المدينة وجمع النفايات ورصف الشوارع ومد شبكة للمجاري والتي استمر التوسع فيها حتى عام 1914، وفي عام 1886 شكلت قوة شرطة للمدينة للمحافظة على الأمن والاستقرار فيها، كما قامت البلدية في نفس العام بإنشاء عيادة وتم تعيين طبيب لمعالجة المرضى مجانًا.
ومنذ أوائل التسعينيات سعت البلدية إلى تحسين الخدمات الطبية في القدس من خلال إنشاء المستشفى البلدي ليخدم قطاعًا أوسع من الناس. ويقول د. كامل العسلي في كتابه (مقدمة في تاريخ الطب في القدس): إن حقيقة أمر المستشفى هو أن الحاج سليم أفندي الحسيني رئيس بلدية القدس اشترى قطعة أرض في حي الشيخ بدر (روميما بعد ذلك) قرب لفتا وبنى عليها مبنى ذا طابقين يضم 28 غرفة وكان البناء يضم 40 سريرًا، وكان المستشفى مزودًا بغرفة عمليات مجهزة تجهيزًا ممتازًا، كما كانت صيدلية المستشفى مجهزة بجميع الأدوية المعروفة في ذلك الوقت.
وفي عام 1892 افتتح متنزه عام للجمهور في شارع يافا وسط المدينة، وغدت الفرق الموسيقية تعزف ألحانها هناك مرتين أسبوعيًا. ومع نهاية القرن التاسع عشر تم تركيب الآلاف من مصابيح الكاز لإنارة شوارع المدينة.
ومع بداية القرن العشرين توسعت النشاطات الثقافية في المدينة حيث تم تأسيس متحف للآثار، وافتتاح مسرح قرب باب الخليل سنة 1901 كانت تقدم فيه المسرحيات باللغات العربية والتركية والفرنسية.
وفي الأول من أيلول سنة 1908م صدرت أول مجلة عربية في فلسطين وظهرت في القدس أسماها صاحبها حنا عبد الله العيسى (بالأصمعي) وكانت تعالج الموضوعات الاجتماعية والأدبية والسياسية والتربوية، لكنها توقفت عن الصدور بعد وفاة صاحبها بتاريخ 12/9/1909 بعد أن صدر عنها أحد عشر عددًا في مدة خمسة أشهر ونصف، هذا وقد شارك في تحريرها والكتابة فيها الأديبان والكاتبان المقدسيان خليل السكاكيني ومحمد إسعاف النشاشيبي.

نهاية الحكم العثماني لمدينة القدس

ما أن انقضت بضع سنوات على تولي السلطان محمد رشاد الخامس حكم السلطنة العثمانية في عام 1909 حتى أعلنت الحرب العالمية الأولى سنة 1914، وحارب الأتراك العثمانيون إلى جانب ألمانيا ضد الحلفاء الإنكليز والفرنسيين والروس في خمس جبهات هي القفقاس- الدردنيل – العراق –رومانيا – فلسطين، ولكنهم خسروا جميعها أمام الحلفاء مما أرغم حكومة الأستانة في نهاية الحرب على عقد معاهدة سيفر SEVRES ،  والتي أجبرت فيها على التنازل عن جميع ممتلكاتها في أفريقيا وآسيا وأوروبا ما عدا أراضي الأناضول والأستانة، ووضعت الأستانة تحت الرقابة الدولية.
أما على الجبهة الفلسطينية وعندما خسر الأتراك مواقعهم الحصينة في جنوبها أدركوا أن القدس لا بد وأن تسقط في أيدي قوات الإنكليز، فبدءوا بالتراجع من مساء يوم الثامن من شهر كانون الأول/ديسمبر، كما أيقن متصرف القدس عزت بك أنه لا أمل يرجى من المقاومة فأرسل في تلك الليلة أيضًا يطلب مفتي القدس كامل الحسيني ورئيس بلديتها السيد حسين سليم الحسيني للاجتماع إليه في داره وهناك خاطبهما قائلاً:
( ها قد أحاط الجنود الإنكليز بالقدس، ولا بد أن تسقط عما قريب بأيديهم، ولقد اعتزمت مغادرة المدينة بعد نصف ساعة، وأود أن ألقي بين أيديكم هذا الحمل الأدبي العظيم ألا وهو تسليم المدينة). ثم ناول رئيس البلدية وثيقة التسليم ليسلمها للإنكليز.
فيما يلي الترجمة الحرفية لنص وثيقة التسليم كما أوردها عارف العارف في كتابه.
( إلى القيادة الإنكليزية: منذ يومين والقنابل تتساقط على القدس المقدسة لدى كل ملة. فالحكومة العثمانية رغبة منها في المحافظة على الأماكن الدينية من الخراب، قد سحبت القوة العسكرية من المدينة وأقامت موظفين للمحافظة على الأماكن الدينية كالقيامة والمسجد الأقصى. وعلى أمل أن تكون المعاملة من قبلكم على هذا الوجه فإني أبعث بهذه الورقة مع وكيل رئيس بلدية القدس حسين بك الحسيني).
8/12/1917م- 1333هـ
متصرف القدس المستقل / عزت
وفي صبيحة يوم الأحد الموافق 9/12/1917 وفي نحو الساعة التاسعة صباحًا كانت القوات التركية قد أنهت انسحابها الكامل من المدينة، وتم تسليم وثيقة التسليم من قبل رئيس البلدية ومجموعة من الشبان المقدسيين إلى قائد الفرقة الستين للجيش الإنكليزي الجنرال شي GENERAL SHEA   وكان دخول الجيش الإنكليزي إلى المدينة المقدسة في تمام الساعة العاشرة والنصف من ذات اليوم.
وبدخول الإنكليز إلى المدينة المقدسة بدأ عهد التحول الجذري في مصير المدينة المقدسة حيث انتهى الحكم العثماني الإسلامي لها بعد أن دام ما يقارب الأربعمائة عام امتدت منذ عام 1517 حتى 1917 وبدأ عهد جديد من المستعمرين الجدد.

Brak komentarzy:

Prześlij komentarz