(التاريخ - التأْريخ - علم التاريخ) شبهة مفاهِيمية أم لغوية فقط؟
كثيرة هي الأحيان التي يفرض فيها البحث العلمـي على المشتغلين به التعامل مع وقائع وظواهر حدثت في الماضي؛ وفي سبيل ذلك طَورت الجهود البحثية منهجًا استرداديًا (Retrospective) سمي في أغلب الأدبيات بالمنهج التاريخي، وذلك حتى يستخدمه أولئك الباحثون الذين يجدون حاجة لدراسة الأحداث التي وقعت في الماضي القريب أو البعيد، من خلال الرجوع إلى مصادر معينة تَشي بهذه الأحداث.
وقد توسعت الكثير من كتابات العلوم الاجتماعية في الحديث عن هذا المنهج دونما تركيز كاف على العلم الذي يشكل موضوعًا لهذا المنهج؛ وقد اعتبـر هذا الأمر بمثابة الشطط الفكري الذي لا طائل من ورائه؛ ذلك أن التطرق لمفهوم المنهج التاريخي لا يمكن أن ينفصل عن تطور مفهوم التاريخ في حد ذاته.
وفي هذا الاتجاه؛ يجب على أي تناول لمفهوم التاريخ أن يَمُرَّ بمحك الضبط اللغوي؛ حيث إن مصطلح التاريخ يتقاطع بنيويًا مع مصطلح آخر قريب منه؛ هو مصطلح (التأريخ) ونظرًا لكون العلاقة بين هذين المصطلحين كانت ولا زالت تشكل هاجسًا فنيًا حال دون ضبط مفهوم التاريخ بشكل لائق، فقد وجب اعادة النظر في هذه العلاقة بما يتلاءم والتحكم في مفهوم التاريخ.
فقد جاء في الصحاح قول الجوهري في مادة أرّخ: أن «التأريخ هو التعريف بالوقت، والتوريخ مثله، فيقال: أرّخ الكتاب ليوم كذا أي: وقّته، ويقال أيضًا: أرّخت وورخت» ويعتقد بعض الباحثين أن أصل التسمية جاء من اللغات السامية القديمة، كاللغة الأكدية واللغة البابلية؛ وفي موضع آخر دل فعل أرخ على عملية رصد الحدث من خلال ربطه بوقت حدوثه؛ وبهذا فـالتأريخ يدل على فعل التدوين وتكوين المادة التاريخية؛ ونقل الأحدث وتوثيقها سواء كان هذا الفعل منظمًا أو عفويًا.
أما التاريخ فهو يشير إلى الأحداث الماضية في حد ذاتها، كما كانت في الماضي سواء تعرفنا على هذه الأحداث أو لم نتعرف عليها.
ويمكن أن يتضح لنا الفرق بين التأريخ والتاريخ بتمثيلهما بالخارطة والموقع على الترتيب؛ حيث إنه وعلى الرغم من عدم مقدرتنا على إدراك التاريخ إلا بالاستناد للتأريخ إلا أن التاريخ يبقى أوسع من التأريخ؛ حيث إن الأحداث التاريخية التي لم تشملها عملية التأريخ أكبـر بكثيـر من تلك الأحداث التي أُرِّخت ووصلت إلينا؛ إضافة إلى كون أن الحقيقة التاريخية تتلخص في معرفة الحدث كما كان في الواقع الماضي؛ وبما أنه حدثٌ تاريخي فلا بد وأن يكون قد وقع فعلا ومن ثم لا يوجد إمكانية لإطلاق حكم على التاريخ بأنه صحيح أو خاطئ وهذا يختلف عن تقييمنا للحدث من حيث مقبوليته المنطقية والأخلاقية تبعًا للمعايير الاجتماعية أو الفنية؛ أما في التأريخ فهناك مجال واسع للقول بالصحة أو الخطأ، وذلك لإمكانية تعدد عمليات التأريخ لنفس الحدث التاريخي؛ ولارتباطها بشخص المؤرخ وظروف التأريخ.
وبهذا صارت كلمة التاريخ تدل على سلسلة الحوادث والوقائع الماضية التي قدّر أنها وقعت للإنسان ضمن حيز تقاطع فيه الزمان مع المكان.
هذا ويخطئ كثير من الباحثين والمفكرين أيضًا عندما يقعون في الاشتباه بين مفهومي (التاريخ) و(علم التاريخ) حيث نجد مثلا أن (كمال حيدر؛ 1995) في كتابة (منهج البحث الأثري والتاريخي) يُعرف التاريخ بأنه «فرع من فروع المعارف البشرية؛ قوامه التحري عن حياة المجتمعات في الماضي والتي يصل إليها الباحث التاريخي وفق منهج خاص» وكذا نجد أن (قاسم عبده؛ 2000) في كتابه (تطور منهج البحث في الدراسات التاريخية) يصف التاريخ بأنه «دراسة المسيرة الحضارية لبنى الإنسان أو الماضي الإنساني في نظام أكاديمي من أجل الكشف عن غموض هذا الماضي لتحقيق المعرفة بالذات الإنسانية».
أبيستيمولوجيًا يختلف علم التاريخ عن التاريخ في حد ذاته؛ باعتبار أن التاريخ هو الموضوع العام لعلم التاريخ؛ في حين أن هذا الأخيـر يشير إلى تلك الدراسة المنظمة للمواد التاريخية الحاملة لحيثيات الوقائع المستهدفة بالتفسير ، وذلك من أجل الوصول إلى الروابط الظاهرة والخفية التي شكلتها عبر الزمان والمكان.
وبهذا فـعلم التاريخ يتميـز باعتماده على المنهج العلمـي في التعامل مع القضايا التاريخية؛ كما أن هذا العلم قد امتد مؤخرًا ليشمل عملية التأريخ في حد ذاتها؛ والتي كانت سابقًا تمارس بشكل عفوي أو من طرف قطاعات غيـر أكاديمية؛ حيث طوّر المختصون في علم التاريخ مزيدًا من الأدوات العلمية التي يمكن أن تستخدم في عملية التأريخ فضلا عن تصدي بعض المؤرخين لعملية التأريخ بشكل مباشر.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
12:00 21 أكتوبر, 2017
من العز بن عبد السلام إلى الصادق الغرياني.. أمّا بعد
من عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسنِ إلى الصّادق بن عبد الرحمن بن علي الغرياني، فإنِّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أمَّا بَعْدُ:
فإنه في ليلةٍ من ليالي دمشق الباردة، كنتُ فِي شبابي نائمًا مع بعض الطلاب في زاوية من زوايا الجامع الأمَوي، فاحتلمتُ في ليلتي تلك، فاستيقظتُ قبيلَ الفجر فلم أجد ماءً أغتسلُ به؛ إلا بركة في طرف المسجد شديدةَ البرودة، فخلعتُ ثيابي وأنا أرتجفُ من البرد، وغَالبتُ نفسي فألقيتُها في تلك البركة واغتسلتُ بالماء البارد، ثم خرجت أشهقُ من شدّة البرد، فأُغمِىَ عليّ، ثم استيقظت وجلست حتى طلع الفجر فأَغفيت إغفاءةً بسيطة، سمعتُ فيها صوتًا يقول: يا ابن عبد السلام أتريد العلم أم العمل؟ فقلتُ أريد العلمَ لأنه يهدي إلى العمل، فأصبح بي بكرم الله وفضلهِ ما تعلم.
أخـــي الصادق اسمًا وفعلًا..
قد علمتُ أنّك أفتيتَ بعدم جواز الذبح قبل الوقوف بعرفة سنة 2009 يوم أن أمر ذلك الحاكم المستبد الظالم «القذافي»، بذبح الأضاحي قبل ذلك بيوم، ولقد أُعجبت وذُهلت عندما أضيف لي أنّك فعلت هذا في القنوات الفضائية التّابعة للقذافي، ولم تخشَ في ذلك إلا الله.
أخـــي الحبيب..
لقد عشتُ في الشام فترةً من حياتي، وعايشت تفتت دولة الإسلام إلى دول يتنافس أمراؤها على الملك، وأصبح بعضهم يقاتل بعضًا ويتحالف مع الصليبيين ليتفرغ لقتال إخوانه وبني عمّه، ولما كُنتُ في دمشق تحالفَ ملكها مع الصليبيين وسلّم لهم بعض حصون الشام وقلاعها، وكنتُ قاضيًا ومفتيًا، فصعدتُ المنبر وأنكرت على الملك وختمتُ الخطبة بقولي: «اللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا تُعِزُّ فيه وليَّك، وتُذِلُّ فيه عدوَّك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر».
حتى إذا أتاني نبأُ مُـكالمتك مع قناة (الجزيرة) في 20 فبراير من عام 2011 ومن وسط طرابُلس، وبفتواك التي أفتيتَها في تِلك المُداخلة بوجُوب نصرة أهل بنغازي والذين استفحل فيهم القتل لأنّهم خرجوا في مظاهراتٍ ضد «القذافي»، فامتلأ قلبي فخرًا بك خاصة لمّا سمعتُ قولك في تلك المكالمة: «إنَّ ما يحدثُ في ليبيا شيءٌ لا يطاق، ولا يجبُ السُّكوتُ عليه، آلةٌ حربيّةٌ ثقيلةٌ تواجه مدنيين صُدورهم عارية»، ثم خطابك للعسكر من أتباع القذافي بالتذكير والتحذير، ثم نطقت بها صريحة مدوّية فزاد فخري بك أضعافًا مضاعفة لمّا قلت: «واجبٌ على كل مواطن غيور في هذا البلدِ وعلى أهل طرابلس وكل المدن الليبية أن يقفوا وقفةً واحدةً حتى يتوقف هذا الظلم على أهل بنغازي»، وسمعتُك وأنت تقول: «فرضُ عينٍ على كل مسلم أن يقومَ بكلِّ ما يقدرُ عليه لإيقاف هذه الدماء، فرضُ عينٍ على كل الليبيين أن يخرجوا ليوقفُوا هذه الدماء».
أخـــي الشيخ..
لقد قرأتَ أنت عن موقفي لما اجتاحَ التتار بغداد وتقدّموا نحو مصر، وأنّ القلوب بلغتِ الحناجر، فأسرعتُ إلى سلطان مصر واجتمعتُ بعساكرها وخطبت فيهم قائلا: «اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر»، ثم كانت أزمة المال القليل الذي لا يكفي لمواجهة العدو، فقلتُ للسلطان: إذا أحضرت ما عندك وعند حريمِك وأحضر الأمراء ما عندَهم من الحُلي وفرَّقته في الجيش ولم يقُم بكفايتهم فعند ذلك نطلب القرض من التجار، وأما قبل ذلك فلا، فأحضر السلطان والعسكر ما عندهم بين يدي وامتثلوا أمري فانتصرنا بفضل الله.
ولقد سَمعتُ أنا عنك بدوري ما فعلتَهُ عندمَا أراد المُجرم خليفة حفتر الانقلاب على الدولة، ووقفتك التي سيخلّدها التّاريخ، وتوجيهاتك التي تنبع من قلبِ عَالمٍ عَلَمٍ مُحب لبلاده، ثم وقوفك في وجه عصابات الحرابة التي تقطع الطرق، وفتاواك بخصوصهم، ففتواك في حق من يقفل صمّامات النفط، وكلامُك في حقّ عصابات سرقة المال العام من المسؤولين، فما وُفِّقْتُ لكلمة تُوفيك حقك من المدح.
أخـــي مفتي عام ليبيا..
لقد قدتُ أهلي لصد الفرنجة الصليبين، وقدت أنت أهلك لخلع محرف كلام رب العالمين، ولقد والله عاصرتُ عددًا من الملوك والسلاطين فحافظت على النصح لله ولرسوله ولعامة المسلمين، وكذلك فعلت أنت.
ولقد كان معي في خروجي من القاهرة طلاب العلم وتلاميذه والعلماء والصُّلحاء والتجار والصناع، وكذلك من هم معك اليوم، وسيلحق بك الباقون، إن شاء الله تعالى.
أخـــي وخليليَ الذي لم أره..
أحمد الله أنك أنتَ أنتَ على الحال الذي نعرف، فمثلك والله رجل بأمة، فذكّر الأمة بأمجادها لتستعيد سيرتها الأولى، وإذا تنكرت البشرية لمواقفنا ومواقفكم، فمن يلوم الحاسد المبغض أو الجاهل المنكر، لكن من يعذر مسلمًا بجهله لمثل هذا التاريخ العريق والنضال الرفيع.
ذكّرهم بقول الشاعر الذي يندبُ حظّ المسلمين على نسيان الأمجاد والجذور، لعلّ الذكرى تنفعُهم:
بالله سَلْ خَلْفَ بَحْرِ الرُّومِ عَنْ عَرَبٍ بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا
استَرْشَـدَ الغَرْبُ بالماضي فَأَرْشَدَهُ ونحـن كانَ لنـا ماضٍ نسينـاه
أخـــي الصادق الغرياني..
سمعتُ أنه في عصركم حُكم علىَّ بالبدعة والخروج عن منهج السلف الصالح، وأنا الذي كان العلماء على مر العصور يشهدون لي بالعلم ومحاربة البدعة، وأعلمُ أن الراسخين في العلم في عصركم، شهدوا لك بأنّك جمعتَ بين فنون العلم من الحديث، والفقه، والأصول، والعربية، وأعلمُ أنّ كتبكَ تدرّس لطلبة العلم في سائر البلاد، وأعلمُ أنك العالم الذي سيخلّف من بعده العلمَ والمواقِفَ الخالدة في قوْل الحقّ، فما بال القوم يحكمون عليك بمثل ما حكموا عليّ به (البدعة والخروج عن منهج السلف)؟
هل غرّهم منك أنك أقوى منهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنك أغزر منهم علمًا وورعًا، وأنّك خيرهُم قيامًا في الحقّ وشجاعة وقوة جَنانٍ وفصاحةَ لسان؟
أخـــي يا ابن عبدالرحمن..
أنتُم اليوم تمرُّون بمثلِ ما كان يمر به المسلمونَ في عصرنا، دويلاتٌ وإماراتٌ ممزّقة، وعصرٌ الأمة أغْنَى ما تكون فيه عن طالبِ علمٍ يزيدُ في التمزيق، عصرٌ يقتنع فيه الشابُّ بالقليل ثم لا يكلّفه «العلم» أكثر من كُتيبات وأشرطة، ولا يعرفُ من المنكرات والبدع التي يستشرف لمحاربَتها إلا بعضَ مسائل الخلاف التي مرّت قرونٌ على اختلاف المسلمين فيها من غير إنكار، عصرٌ الأمة في أشد الحاجة فيه إلى الانتفاع بشبابها الذي تعطل الانتفاع بهم لما اجتروا ثقافة معاصرة سطحية تنتقل به في يوم وليلة إلى مقام يستأثر لنفسه الفوزَ بالفرقة الناجية، ثم يستنكف ويشمئز من السماع لك ولغيرك من العلماء الراسخين، ثم يتطور موقفه فينعطف على الأكابر والمتقدمين والمتأخرين بالتبديع والتحذير.
ولقد سمعتُ أن قرابة قرنٍ من الزّمان مرّ على تأسيسِ منهجٍ أرادوا فيه أن يُحاربوا البدع وأن يوحدوا صُفوف الأمة؛ فانتهى هذا التوحيد والجمع إلى تبديعيَ (العز ابن عبد السلام) وتلاميذي!!
أخـــي أيها الجبل الأشم..
ناشدتُك الله أن تثْبتُ على ما أنت عليه، وأن تَعمل مع العُلماء الرّاسخين في ليبيا على تحريرِ العُقول لتميّز الخبيثَ من الطيب والغثّ من السَّمين.
ثم اعْلمْ رحمَك الله أنّك قامةٌ وقيمَةٌ صنعتْ وتصنع فارقًا حقيقيًا لبلدِك وأهلك
فخُذْها مِني صَريحة بِلا مِراء، أنتَ سُلْطَانُ العُلَمَاء.
11:00 21 أكتوبر, 2017
أردوغان.. الأرطغرل القادم من تركيا
كنت أحب صدام حسين وبشاشته، وكنت أحب عروبته، لأنه كان عربيًا قبل أن يكون جائرًا أو سلطانًا، لكن الزمان وتقلباته خيبت أملي وقصفت عليّ براميل اليأس، وكنت شغوفًا بقذافي ودولته الأبية ووحدتها وعزتها المتحدية، وكنت متابعا لأي حركة تنفجر من إحساس المجد وأحن إلى عالم يرفع فيه الإسلام راية المجد والشرف.
تركيا الجديدة، التي تشع قبسات الأمل وتبعث من تاريخها الأبي بحلته المتنورة، لقد حدق أطرافي ذلك الرجل العملاق، رجب طيب أردوغان، الذي يعرفه الطفل والرجل، ويصفه الشعر والنثر، وتحدو إليه أرواح المجد حتى لا تضمحل حكومته ولا ترتحل قبضته، مع أني أصفه عنقاء نهض من ركام الانقلاب وصقرا تحلق فوق سماء الدين الإسلامي، وقد أخذت الكثير هالته الإسلامية ونبضته للأخوة والوفاء والعالم الإسلامي، فإن تركيا التي تقتنصها معالم البطولات لا بد من إعادة هذا التراث التليد وبناء دولة من جديد، لأن في تربتها رياح تلقح آثار الإسلام والخلافة، الخلافة التي سلطت على العالم الإسلامي لأكثر من ثلاثة قرون، الخلافة التي وحدت كلمة الأمة لولا انشقاقات وتحزبيات، لكنها كانت آخر مغارة تأوي إليها أفئدة الأمة جمعاء، وقد عمت في كوكب الأرض، ومدت جسرًا متينًا بين القارات الثلاث، من آسيا وأفريقيا وأوروبا، وفعلت كسفير أمين مع أنها بعدت من دار الإسلام أميالا وترامت من قلبها أشواطا، لكنها ثبتت ثبت الجبال الراسيات أمام كل من المشكلات والعراقيل التي انجرفت من كنائس أوروبا وانهمرت من سهول آسيا وصحارى أفريقيا، بل كانت لها أن تصدى الصراعات الداخلية التي أثرت جرحًا واسع العمق والألم.
لمحات من تركيا القديمة
من الخلافة العثمانية، ومن بلاطها وسلاطينها امتصت تركيا دماء الفخر وقوة الإرادة، وتألقت من بين الأمم والشعوب بهذه الملكة والمملكة القوية العارمة، رجال شدوا حزامهم لحماية الأدب والعلوم وبناء الحضارة والثقافة ونصرة المظلوم، عضلاتهم فتية وإرادتهم قوية، وما زالوا كذلك وقد اتسعت أسوار دولتهم بين القارات، وذلت لهم أسوار تستر وبلاط القسطنيطينية، بل خاضت إلى مجر، وبلقان، وصربيا، وبلغاريا، وأدرنة، وهذه الحروب التي مهدت الطرق لهم في أوروبا أودت بحياتها وأمنها الداخلي، لأنها حرضت وهيجت مشاعر النصرانية فتجمعوا وفعلوا معها فعل الثعلب المكار، وهكذا بدأت شعلة الحرب تستشيط وتستطير.
ففي تاريخ تركيا مسلسلات من البطولات، التي تبرر استماتتها والمخاطرة بنفسها لأجل الوطن والمجد، فإنه لما أصيب السلطان المراد العثماني في الحرب مع كوسوفا لم تنزلق الجنود ولم تذهب أنفسها هلعًا، بل تقدموا حتى رفعوا راية الانتصار، فإن هذا المشهد العظيم لا يرى إلا في تاريخ العثمانية وإلا في رجال تركيا العظيمة، قوادهم مثل خير الدين بربروس، كانوا أيضا يمثلون غاية الشجاعة والبسالة، ويقضون على التمرد والخروج على الدولة.
ولم يزل هذا الإعصار العثماني يزعزع عروش فرنسا وبريطانيا وإسبانيا والمغرب وتونس، وفيينا، حتى تم فتح صوماليا على يد سليمان، وكان هذا الفتح أكبر ضربة على وجه أوروبا وكبريائها، ويقول التاريخ: بأنه كان هنالك مليون مسلم تحت سطوة هذا الخليفة، سليمان القانوني.
وأما العثمانية وإسهاماتها في تنشيط نسائج الدعوة الإسلامية مشهورة وجدرية بالقراءة، ويقال عنهم كما حكى فارس المنابر عبد الحميد كشك «إنهم كانوا لو دخلوا المسجد ورأوا فيها المصاحف لم ينصرفوا منها مولين أدبارهم بل انصرفوا ووجوهم مقبلة نحو كلام الله»، وقد كانت سماتهم عالية الأهداف وعلى أساس من الأخوة، ومن دعوتهم انسلت أشعة الإسلام إلى حنادس أوروبا المتربعة حول المغريات والملذات الدنيوية، وأرسوا دعاة وعلماء لتعليم مبادئ الدين وقراءة القرآن، وبنوا مدارس على أساس السنة والتقاليد الإسلامية الساذجة، بل كانت الخلافة رائدة الفنون والعمارات، فمن أجلها نحقق ونقول: «أن للآثار أفكار».
وكانت النتيجة فوق ما توقعوا، لأن شعوب أوروبا كانت تتعرض لتشريدات وتهميشات من قبل الملوك الجبابرة، وكانت تحن إلى سلوة وإلى خلاص من هذه الحياة المكبلة، فأصبحت أوروبا تتعرف وتنهال على الإسلام، وكانت بداية ثورة هادئة انطلقت من الإسلام، فتركيا القديمة هي منسوجة بالإيمان والإخلاص، وهي عبارة عن شعب تحدى الجبال الصم والرجال المكرة، وهي لا تزال لامعة ومنشورة في التاريخ حتى عجزت التجديدات الزائفة التي ظهرت في العشرينيات لطمس معالم الخلافة المثالية.
إرهاصات تركيا الجديدة
تركيا، ما زالت حبكة الدهر وبطل التاريخ، ولم تزل وديانها زاخرة بالفتوحات والمعارك القدسية، لكنها غابت من جدران التاريخ عندما نفخ أتاترك كير العلمنة وإساءة الإسلام، وقد كان رجلا ذا وجهين، يشج بأيد ويأسو بأخرى، ولم يدرك الشعب هذا الماكر والمقامر إلا بعدما سمّرت جنازة الخلافة وصلبت تحت سمعهم وأبصارهم، هكذا انتهت الخلافة بكل الشين والوقاحة، بكل المذلة والهوان للعالم الإسلامي، لأن الخلافة مهما تفكك أمرها أو تشتت شملها كانت مصفا واحدا ومنبرا للأمة الإسلامية جمعاء.
تركيا فعلت فعل أشقائها من أندلس وقبرص وغرناطة، ورافقت معها في تشييع جنازة الأمة، ولم يندمل جرحها حتى الآن ولو من بعد تسعين عامًا على تلك الكارثة والمدلهمة، ولم تتحرر الأمة من ذكرياتها الأليمة بل ظلت بجدة المراثي وثرثرة الشعراء.
فإن تركيا لها ماض باسم وتاريخ تليد، بل فيها دروس وعبر للأمة، وهي تعلمها أسس النجاة والخلاص، لكن لو عادت تركيا إلى ذاتها واستنشقت من مجلداتها عطر العز والشموخ للاح في أفق الإسلام نجم يحيي الكون باسم السلام.
فإن من أكثر الأمور عجبًا أن نشهد صحوة إسلامية في بلد يلتزم بالعلمانية الشديدة، فإن تركيا وعلمانيتها تحاربان أوربا وسياستها، فإن سقوط الخلافة سنة 1924 كان حادثًا مروعًا كارثيًا، ترثي له قلوب المسلمين، فإن الكارثة كانت شمولية، حيث دمرت رموز الخلافة بل قضت على من ينادي بقضايا المسلمين ورفع عرائضهم إلى المنظر العام، لكن تركيا لم تركع أمام تقلبات شكلتها استبدادات أتاترك لتكريس العلمانية ومن حف حوله من الشباب الأتراك.
وكان الإسلام يرتصد كل حركة ويراقبها، حتى أطلق أول رصاصة من زناد سعيد بيران، لكنه كان وسط عيون حاقدة، ولم يمض على قيد الحياة بعيدا وتم إعدامه، ثم كانت نوبة عدنان مندريسي، وفعل ما فعل، وأعاد اللغة العربية إلى المآذن وضمن الدروس الدينية في المناهج، ولكن القضاء اختطفه وغيبه في أسلاك الجيش التركي الهلع، لأن شعلة الإيمان لو بدأت في قلوب أصالتها الإسلام والعشق مع الله لا تتوقف إلا بعد أتت على الأخضر واليابس وأعادت من تراثها سلالم الغد المناهض، ثم كانت نوبة نجم الدين أربكان وحزب السلامة، وكان ينادي «النظام العادل»، ويبرز جوفية العلمانية المتشددة، وكانت له حدة فكرة حتى لم تظهر بوجه إسلامي بل خاض المعركة باسم الإصلاح والتنمية والعدالة.
أرطغرل من جديد
وبعد تأسيس «حزب السلامة» التقى أربكان مع رجب طيب أردوغان وكان طالبًا في كلية الاقتصاد والسياسة بمرمرة، وأعجبت به هذه الحركة إعجابًا شديدًا واعتزم للمسير على درب أستاذه الموقر أربكان، ولكن عين المراقبة كانت تحوم على حزب السلامة، وسعوا في إلغاء هويتها وشرعيتها، حتى أعاد أربكان تشكيل حزب باسم «حزب الرفاه» سنة 1980، وهنا تنعطف القضية وتتجه نحو أخرى، حيث لمع أردغان نجمًا ساطعًا وأصبح رئيسًا لفرع الحزب في إسطنبول سنة 1985 ولم يبلغ من العمر إلا 31 فقط، وهذا الرجل الذي باع البطيخ في شوارع تركيا لم يلبث حتى تولى مقاليد الرئاسة ببلدية إسطنبول، وحقق مفاجأة كبيرة بهذا الفوز.
والمفاجأة الكبرى كانت صعود إسلامي إلى رئاسة إسطنبول، بل هو إقبال إصلاحي ولم ييأس شعب تركيا تحت ظل هذا «الأرطغرل الجديد»، إنجازات هائلة لم تخطر ببالهم منذ زمان، لأنها كانت تشكو انقلابات عسكرية متواصلة، لم تخمد نارها إلا أطارت أخرى عن قريب، فظلت تسمع نداءات من أصل التنمية والعدالة، واحتشدت وراء هالة أردغان القائد، وأسس حزبًا جديدًا باسم «حزب العدالة والتنمية» وانطلقت بمبادرات بناءة أدت إلى تغيير مجرى تركيا العلمانية، ونالت قبولًا واسعًا في أوساطها، وشاركت فيها رجالًا ونساء وشبابًا، وأثارت هذه الشعبية الجارفة قلقًا وضغوطًا في خلايا العلمانية، وفرشوا أشواكًا لإضناء حركتها وردع كتائبها لكنها نسفت آمالهم بفوز يسحق جميع العداة والمكرة، ولم يزل هذا الرجل يحقق المستحيل حتى سمعنا أصداءه في ليلة الانقلاب العسكري الفاشل، المحاولة المدبرة التي حاكتها «حماة تركيا» والتي باءت بالفشل الذريع.
أحبه لأجل كلمته الصادقة وإن سماها الأعدء «كلمة معسولة اصطناعية» لكن لها صدى واسعًا في عالم يصمت فيه الجبناء.
نعم، إنه الصوت الحر للعالم الصامت، الذي يستمد قوته من الشعب، وبصيص الأمل للملايين، إنه رفيق الغرباء، عاشت تركيا إلى جديد، وعاشت وعاشت، وكل التوفيق للأرطغرل القادم بإذن الله.
المصادر
10:00 21 أكتوبر, 2017
الإنسانية تحت رحمة السّائد
مع حلول عصر الأنوار الذي حلّ بالبشرية قبل قرون من الزّمان، نظّر أعلامه لفكرة جوهرية مفادها أن: الإنسانية مجموع متضامن ومتماسك على خلفية أنّ الإنسان أخ للإنسان على هذه البسيطة أو الكوكب الصغير.
ومع توالي القرون، أصبح لائحًا أنّ مبادئ الأنوار لا تغدو إلا أن تكون حبرًا على ورق وأفكارًا مثالية وجدت البشريّة نفسها عاجزة عن تحقيقها، رغم توافر كلّ الظروف المناسبة لذلك. إلّا أن الإنسان يأبى في كلّ مرّة إلّا أن يُغلّب جانبه الوحشي على الغايات والأهداف السّامية التّي يخطّها عقلاؤه. حتى أصبحنا في عالم اليوم نعيش لنتساءل.
أين ذهب البشر؟ أين يختبئون في حين يتصدّر الإنسان اللاإنساني الجزء الأمامي من خشبة المسرح؟ والمشهد بالطبع هو من صنيع الإعلام، والشبكات الاجتماعية، ومنتديات المناقشة، حيث يكثر العدوان والمضايقات اللّفظية التي يتلقّاها الإنسان دون ذنب اجترحه، فقط لأنّه أبدى رأيه المختلف (الإنساني). أيضا يجب ألّا ننسى مجال الحياة اليومية، حيث يسود عدم الاحترام، والشتائم، والوحشية، والتهديدات والعنف وغيرها من أعراض الانحدار الإنساني والأخلاقي.
فمن صور ما نعيشه اليوم في عصر إنساني يفتقد معاني الإنسانية هو أن من يتصدّر مراكب الشعوب والأمم في عصرنا، عصر الليبرالية الجديدة في مرحلتها المعولمة لم ينشغلوا بالمثاليات أو بما يجب أن يكون المجتمع والإنسان عليه ثقافة، وقيمًا، وأخلاقًا. بل اهتمّوا بما يحقّق المغانم المالية والمادية في اقتصاد ليس فيه شيء من أهداف الإنسانية، وقد سبق أن أشار الكثير من المفكرين إلى خطورة المرحلة الحالية من تاريخ الحياة البشرية. حيث أصبحنا لا نعير أدنى اهتمام للمجتمعي، والثقافي والإنساني. وميلنا نحو ثقافة عدوانية اتجاه المختلف وإقصائية اتجاه الأصوات الإنسانية فينا.
لا يمكن لعاقل مستبصر بأزمة العالم المعاصر، وما يصادف فيه الإنسان من مظاهر للعنف والإقصاء والعنصريّة الدّينية كما العرقيّة أن ينكر أنّ البشرية في ورطة حقيقية لا خلاص منها إلا بتحرير العالم من براثن الظلم والإرهاب والاستبداد الذي استشرى وأصبح سائدًا في كل الأوساط المجتمعية مهما بلغت من الرّقي والتمدّن ومهما انحدرت وهوت في بوتقة الجهل والتخلف والعنف.
هذه الظاهرة المرّة لا تقتصر على صقع واحد من أصقاع العالم، بل تعمّ وتسود أنّى حلّ الإنسان وارتحل. فمن الجليّ أنّ إنسان العصر أصبح مسلوب الإرادة، مسلوب الكرامة، مسلوب الحرية. رغم أنّ الفلسفة التي قامت عليها مجتمعاته (الحديثة) ترتكز على هذه الرّكائز الثلاث وتصنّفها كغايات للإجتماع البشري. فأين الخلل؟ مادام الإطار النّظري يتغيّى تحقيق المسلوب. ونشر ثقافة الحريّة والكرامة والإرادة الحرّة، وتحرير الإنسان من وحشيته وجشعه وأساليب حياته العتيقة، هذا إضافة إلى تحضيره وتمدينه وأنسنته.
من بين الحقائق الصّارخة، أنّ عالم القرن الحادي والعشرين لم يشذّ في طبيعته عن باقي الأزمان الغابرة، فهو عالم محكوم بمنطق القوّة والغلبة والبأس الشديد. عالم تتراجع فيه الأخلاق والمبادئ والقيم، لتسود في الوحشية والإجرام والإرهاب. عالم يتراجع فيه أصحاب الكفايات والمهارات والخُلق الحسن، ليسود فيه المجرمون والطّغاة الجبابرة والمجانين. عالم تتقهقر إنسانيته شيئًا فشيئًا، ولا يتقدّم المشهد فيه إلاّ من وضع رحمته جانبًا وتخلّى عنها. فالسّائد اليوم لا يختلف كثيرًا عن سائد الأمس، وإن كان مشيدًّا على دعائم القيم الإنسانية الجليلة.
هذا الواقع البائس تعيشه المجتمعات أيضًا، الدّيمقراطية كما الاستبدادية. ويجعل الحياة شيئًا فشيئًا أصعب على كلّ من اختار أن يسبح عكس التيّار ويندّد بهذه الأنوميا بتعبير دوركايم. فتواجد هذه الأصوات بل وتكاثرها يومًا بعد يوم رغم القيود والأغلال المفروضة عليها من المجتمع الرّافض للعلاج، وبدرجة أولى من كلّ مستفيد من الوضع السّائد يضيء الصّورة القاتمة التي رسمناها في الأسطر الأولى، ويبعث الأمل في أنّ المعدن الإنساني الأصيل لا يزال حيّا وقادرًا على الانبعاث من جديد وسط هذا الكمّ الهائل من العنف والدّمار والإجرام.
الإنسانية اليوم أمام اختبار جديد ومطبّات أصعب من أيّ وقت مضى، فنحن البشر البسطاء نستطيع لو صحّ منّا العزم ولم ننثن ونتثنّ أو ننكسر أو يتثلّم حدّنا، نستطيع تحقيق التّوازن بل والعودة إلى صدارة المشهد، وذلك بتشييد فلسفة جديدة للحياة، تُعلي من شأن الإنسانية والأخلاق والقيم، وتعزز روح الاختلاف والحوار. وترسيخ هذه المرامي لا بدّ أن يُستهلّ من ذواتنا فمجتمعاتنا فالعالمين.
تحميل المزيدكثيرة هي الأحيان التي يفرض فيها البحث العلمـي على المشتغلين به التعامل مع وقائع وظواهر حدثت في الماضي؛ وفي سبيل ذلك طَورت الجهود البحثية منهجًا استرداديًا (Retrospective) سمي في أغلب الأدبيات بالمنهج التاريخي، وذلك حتى يستخدمه أولئك الباحثون الذين يجدون حاجة لدراسة الأحداث التي وقعت في الماضي القريب أو البعيد، من خلال الرجوع إلى مصادر معينة تَشي بهذه الأحداث.
وقد توسعت الكثير من كتابات العلوم الاجتماعية في الحديث عن هذا المنهج دونما تركيز كاف على العلم الذي يشكل موضوعًا لهذا المنهج؛ وقد اعتبـر هذا الأمر بمثابة الشطط الفكري الذي لا طائل من ورائه؛ ذلك أن التطرق لمفهوم المنهج التاريخي لا يمكن أن ينفصل عن تطور مفهوم التاريخ في حد ذاته.
وفي هذا الاتجاه؛ يجب على أي تناول لمفهوم التاريخ أن يَمُرَّ بمحك الضبط اللغوي؛ حيث إن مصطلح التاريخ يتقاطع بنيويًا مع مصطلح آخر قريب منه؛ هو مصطلح (التأريخ) ونظرًا لكون العلاقة بين هذين المصطلحين كانت ولا زالت تشكل هاجسًا فنيًا حال دون ضبط مفهوم التاريخ بشكل لائق، فقد وجب اعادة النظر في هذه العلاقة بما يتلاءم والتحكم في مفهوم التاريخ.
فقد جاء في الصحاح قول الجوهري في مادة أرّخ: أن «التأريخ هو التعريف بالوقت، والتوريخ مثله، فيقال: أرّخ الكتاب ليوم كذا أي: وقّته، ويقال أيضًا: أرّخت وورخت» ويعتقد بعض الباحثين أن أصل التسمية جاء من اللغات السامية القديمة، كاللغة الأكدية واللغة البابلية؛ وفي موضع آخر دل فعل أرخ على عملية رصد الحدث من خلال ربطه بوقت حدوثه؛ وبهذا فـالتأريخ يدل على فعل التدوين وتكوين المادة التاريخية؛ ونقل الأحدث وتوثيقها سواء كان هذا الفعل منظمًا أو عفويًا.
أما التاريخ فهو يشير إلى الأحداث الماضية في حد ذاتها، كما كانت في الماضي سواء تعرفنا على هذه الأحداث أو لم نتعرف عليها.
ويمكن أن يتضح لنا الفرق بين التأريخ والتاريخ بتمثيلهما بالخارطة والموقع على الترتيب؛ حيث إنه وعلى الرغم من عدم مقدرتنا على إدراك التاريخ إلا بالاستناد للتأريخ إلا أن التاريخ يبقى أوسع من التأريخ؛ حيث إن الأحداث التاريخية التي لم تشملها عملية التأريخ أكبـر بكثيـر من تلك الأحداث التي أُرِّخت ووصلت إلينا؛ إضافة إلى كون أن الحقيقة التاريخية تتلخص في معرفة الحدث كما كان في الواقع الماضي؛ وبما أنه حدثٌ تاريخي فلا بد وأن يكون قد وقع فعلا ومن ثم لا يوجد إمكانية لإطلاق حكم على التاريخ بأنه صحيح أو خاطئ وهذا يختلف عن تقييمنا للحدث من حيث مقبوليته المنطقية والأخلاقية تبعًا للمعايير الاجتماعية أو الفنية؛ أما في التأريخ فهناك مجال واسع للقول بالصحة أو الخطأ، وذلك لإمكانية تعدد عمليات التأريخ لنفس الحدث التاريخي؛ ولارتباطها بشخص المؤرخ وظروف التأريخ.
وبهذا صارت كلمة التاريخ تدل على سلسلة الحوادث والوقائع الماضية التي قدّر أنها وقعت للإنسان ضمن حيز تقاطع فيه الزمان مع المكان.
هذا ويخطئ كثير من الباحثين والمفكرين أيضًا عندما يقعون في الاشتباه بين مفهومي (التاريخ) و(علم التاريخ) حيث نجد مثلا أن (كمال حيدر؛ 1995) في كتابة (منهج البحث الأثري والتاريخي) يُعرف التاريخ بأنه «فرع من فروع المعارف البشرية؛ قوامه التحري عن حياة المجتمعات في الماضي والتي يصل إليها الباحث التاريخي وفق منهج خاص» وكذا نجد أن (قاسم عبده؛ 2000) في كتابه (تطور منهج البحث في الدراسات التاريخية) يصف التاريخ بأنه «دراسة المسيرة الحضارية لبنى الإنسان أو الماضي الإنساني في نظام أكاديمي من أجل الكشف عن غموض هذا الماضي لتحقيق المعرفة بالذات الإنسانية».
أبيستيمولوجيًا يختلف علم التاريخ عن التاريخ في حد ذاته؛ باعتبار أن التاريخ هو الموضوع العام لعلم التاريخ؛ في حين أن هذا الأخيـر يشير إلى تلك الدراسة المنظمة للمواد التاريخية الحاملة لحيثيات الوقائع المستهدفة بالتفسير ، وذلك من أجل الوصول إلى الروابط الظاهرة والخفية التي شكلتها عبر الزمان والمكان.
وبهذا فـعلم التاريخ يتميـز باعتماده على المنهج العلمـي في التعامل مع القضايا التاريخية؛ كما أن هذا العلم قد امتد مؤخرًا ليشمل عملية التأريخ في حد ذاتها؛ والتي كانت سابقًا تمارس بشكل عفوي أو من طرف قطاعات غيـر أكاديمية؛ حيث طوّر المختصون في علم التاريخ مزيدًا من الأدوات العلمية التي يمكن أن تستخدم في عملية التأريخ فضلا عن تصدي بعض المؤرخين لعملية التأريخ بشكل مباشر.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
12:00 21 أكتوبر, 2017
من العز بن عبد السلام إلى الصادق الغرياني.. أمّا بعد
من عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسنِ إلى الصّادق بن عبد الرحمن بن علي الغرياني، فإنِّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أمَّا بَعْدُ:
فإنه في ليلةٍ من ليالي دمشق الباردة، كنتُ فِي شبابي نائمًا مع بعض الطلاب في زاوية من زوايا الجامع الأمَوي، فاحتلمتُ في ليلتي تلك، فاستيقظتُ قبيلَ الفجر فلم أجد ماءً أغتسلُ به؛ إلا بركة في طرف المسجد شديدةَ البرودة، فخلعتُ ثيابي وأنا أرتجفُ من البرد، وغَالبتُ نفسي فألقيتُها في تلك البركة واغتسلتُ بالماء البارد، ثم خرجت أشهقُ من شدّة البرد، فأُغمِىَ عليّ، ثم استيقظت وجلست حتى طلع الفجر فأَغفيت إغفاءةً بسيطة، سمعتُ فيها صوتًا يقول: يا ابن عبد السلام أتريد العلم أم العمل؟ فقلتُ أريد العلمَ لأنه يهدي إلى العمل، فأصبح بي بكرم الله وفضلهِ ما تعلم.
أخـــي الصادق اسمًا وفعلًا..
قد علمتُ أنّك أفتيتَ بعدم جواز الذبح قبل الوقوف بعرفة سنة 2009 يوم أن أمر ذلك الحاكم المستبد الظالم «القذافي»، بذبح الأضاحي قبل ذلك بيوم، ولقد أُعجبت وذُهلت عندما أضيف لي أنّك فعلت هذا في القنوات الفضائية التّابعة للقذافي، ولم تخشَ في ذلك إلا الله.
أخـــي الحبيب..
لقد عشتُ في الشام فترةً من حياتي، وعايشت تفتت دولة الإسلام إلى دول يتنافس أمراؤها على الملك، وأصبح بعضهم يقاتل بعضًا ويتحالف مع الصليبيين ليتفرغ لقتال إخوانه وبني عمّه، ولما كُنتُ في دمشق تحالفَ ملكها مع الصليبيين وسلّم لهم بعض حصون الشام وقلاعها، وكنتُ قاضيًا ومفتيًا، فصعدتُ المنبر وأنكرت على الملك وختمتُ الخطبة بقولي: «اللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا تُعِزُّ فيه وليَّك، وتُذِلُّ فيه عدوَّك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر».
حتى إذا أتاني نبأُ مُـكالمتك مع قناة (الجزيرة) في 20 فبراير من عام 2011 ومن وسط طرابُلس، وبفتواك التي أفتيتَها في تِلك المُداخلة بوجُوب نصرة أهل بنغازي والذين استفحل فيهم القتل لأنّهم خرجوا في مظاهراتٍ ضد «القذافي»، فامتلأ قلبي فخرًا بك خاصة لمّا سمعتُ قولك في تلك المكالمة: «إنَّ ما يحدثُ في ليبيا شيءٌ لا يطاق، ولا يجبُ السُّكوتُ عليه، آلةٌ حربيّةٌ ثقيلةٌ تواجه مدنيين صُدورهم عارية»، ثم خطابك للعسكر من أتباع القذافي بالتذكير والتحذير، ثم نطقت بها صريحة مدوّية فزاد فخري بك أضعافًا مضاعفة لمّا قلت: «واجبٌ على كل مواطن غيور في هذا البلدِ وعلى أهل طرابلس وكل المدن الليبية أن يقفوا وقفةً واحدةً حتى يتوقف هذا الظلم على أهل بنغازي»، وسمعتُك وأنت تقول: «فرضُ عينٍ على كل مسلم أن يقومَ بكلِّ ما يقدرُ عليه لإيقاف هذه الدماء، فرضُ عينٍ على كل الليبيين أن يخرجوا ليوقفُوا هذه الدماء».
أخـــي الشيخ..
لقد قرأتَ أنت عن موقفي لما اجتاحَ التتار بغداد وتقدّموا نحو مصر، وأنّ القلوب بلغتِ الحناجر، فأسرعتُ إلى سلطان مصر واجتمعتُ بعساكرها وخطبت فيهم قائلا: «اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر»، ثم كانت أزمة المال القليل الذي لا يكفي لمواجهة العدو، فقلتُ للسلطان: إذا أحضرت ما عندك وعند حريمِك وأحضر الأمراء ما عندَهم من الحُلي وفرَّقته في الجيش ولم يقُم بكفايتهم فعند ذلك نطلب القرض من التجار، وأما قبل ذلك فلا، فأحضر السلطان والعسكر ما عندهم بين يدي وامتثلوا أمري فانتصرنا بفضل الله.
ولقد سَمعتُ أنا عنك بدوري ما فعلتَهُ عندمَا أراد المُجرم خليفة حفتر الانقلاب على الدولة، ووقفتك التي سيخلّدها التّاريخ، وتوجيهاتك التي تنبع من قلبِ عَالمٍ عَلَمٍ مُحب لبلاده، ثم وقوفك في وجه عصابات الحرابة التي تقطع الطرق، وفتاواك بخصوصهم، ففتواك في حق من يقفل صمّامات النفط، وكلامُك في حقّ عصابات سرقة المال العام من المسؤولين، فما وُفِّقْتُ لكلمة تُوفيك حقك من المدح.
أخـــي مفتي عام ليبيا..
لقد قدتُ أهلي لصد الفرنجة الصليبين، وقدت أنت أهلك لخلع محرف كلام رب العالمين، ولقد والله عاصرتُ عددًا من الملوك والسلاطين فحافظت على النصح لله ولرسوله ولعامة المسلمين، وكذلك فعلت أنت.
ولقد كان معي في خروجي من القاهرة طلاب العلم وتلاميذه والعلماء والصُّلحاء والتجار والصناع، وكذلك من هم معك اليوم، وسيلحق بك الباقون، إن شاء الله تعالى.
أخـــي وخليليَ الذي لم أره..
أحمد الله أنك أنتَ أنتَ على الحال الذي نعرف، فمثلك والله رجل بأمة، فذكّر الأمة بأمجادها لتستعيد سيرتها الأولى، وإذا تنكرت البشرية لمواقفنا ومواقفكم، فمن يلوم الحاسد المبغض أو الجاهل المنكر، لكن من يعذر مسلمًا بجهله لمثل هذا التاريخ العريق والنضال الرفيع.
ذكّرهم بقول الشاعر الذي يندبُ حظّ المسلمين على نسيان الأمجاد والجذور، لعلّ الذكرى تنفعُهم:
بالله سَلْ خَلْفَ بَحْرِ الرُّومِ عَنْ عَرَبٍ بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا
استَرْشَـدَ الغَرْبُ بالماضي فَأَرْشَدَهُ ونحـن كانَ لنـا ماضٍ نسينـاه
أخـــي الصادق الغرياني..
سمعتُ أنه في عصركم حُكم علىَّ بالبدعة والخروج عن منهج السلف الصالح، وأنا الذي كان العلماء على مر العصور يشهدون لي بالعلم ومحاربة البدعة، وأعلمُ أن الراسخين في العلم في عصركم، شهدوا لك بأنّك جمعتَ بين فنون العلم من الحديث، والفقه، والأصول، والعربية، وأعلمُ أنّ كتبكَ تدرّس لطلبة العلم في سائر البلاد، وأعلمُ أنك العالم الذي سيخلّف من بعده العلمَ والمواقِفَ الخالدة في قوْل الحقّ، فما بال القوم يحكمون عليك بمثل ما حكموا عليّ به (البدعة والخروج عن منهج السلف)؟
هل غرّهم منك أنك أقوى منهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنك أغزر منهم علمًا وورعًا، وأنّك خيرهُم قيامًا في الحقّ وشجاعة وقوة جَنانٍ وفصاحةَ لسان؟
أخـــي يا ابن عبدالرحمن..
أنتُم اليوم تمرُّون بمثلِ ما كان يمر به المسلمونَ في عصرنا، دويلاتٌ وإماراتٌ ممزّقة، وعصرٌ الأمة أغْنَى ما تكون فيه عن طالبِ علمٍ يزيدُ في التمزيق، عصرٌ يقتنع فيه الشابُّ بالقليل ثم لا يكلّفه «العلم» أكثر من كُتيبات وأشرطة، ولا يعرفُ من المنكرات والبدع التي يستشرف لمحاربَتها إلا بعضَ مسائل الخلاف التي مرّت قرونٌ على اختلاف المسلمين فيها من غير إنكار، عصرٌ الأمة في أشد الحاجة فيه إلى الانتفاع بشبابها الذي تعطل الانتفاع بهم لما اجتروا ثقافة معاصرة سطحية تنتقل به في يوم وليلة إلى مقام يستأثر لنفسه الفوزَ بالفرقة الناجية، ثم يستنكف ويشمئز من السماع لك ولغيرك من العلماء الراسخين، ثم يتطور موقفه فينعطف على الأكابر والمتقدمين والمتأخرين بالتبديع والتحذير.
ولقد سمعتُ أن قرابة قرنٍ من الزّمان مرّ على تأسيسِ منهجٍ أرادوا فيه أن يُحاربوا البدع وأن يوحدوا صُفوف الأمة؛ فانتهى هذا التوحيد والجمع إلى تبديعيَ (العز ابن عبد السلام) وتلاميذي!!
أخـــي أيها الجبل الأشم..
ناشدتُك الله أن تثْبتُ على ما أنت عليه، وأن تَعمل مع العُلماء الرّاسخين في ليبيا على تحريرِ العُقول لتميّز الخبيثَ من الطيب والغثّ من السَّمين.
ثم اعْلمْ رحمَك الله أنّك قامةٌ وقيمَةٌ صنعتْ وتصنع فارقًا حقيقيًا لبلدِك وأهلك
فخُذْها مِني صَريحة بِلا مِراء، أنتَ سُلْطَانُ العُلَمَاء.
11:00 21 أكتوبر, 2017
أردوغان.. الأرطغرل القادم من تركيا
كنت أحب صدام حسين وبشاشته، وكنت أحب عروبته، لأنه كان عربيًا قبل أن يكون جائرًا أو سلطانًا، لكن الزمان وتقلباته خيبت أملي وقصفت عليّ براميل اليأس، وكنت شغوفًا بقذافي ودولته الأبية ووحدتها وعزتها المتحدية، وكنت متابعا لأي حركة تنفجر من إحساس المجد وأحن إلى عالم يرفع فيه الإسلام راية المجد والشرف.
تركيا الجديدة، التي تشع قبسات الأمل وتبعث من تاريخها الأبي بحلته المتنورة، لقد حدق أطرافي ذلك الرجل العملاق، رجب طيب أردوغان، الذي يعرفه الطفل والرجل، ويصفه الشعر والنثر، وتحدو إليه أرواح المجد حتى لا تضمحل حكومته ولا ترتحل قبضته، مع أني أصفه عنقاء نهض من ركام الانقلاب وصقرا تحلق فوق سماء الدين الإسلامي، وقد أخذت الكثير هالته الإسلامية ونبضته للأخوة والوفاء والعالم الإسلامي، فإن تركيا التي تقتنصها معالم البطولات لا بد من إعادة هذا التراث التليد وبناء دولة من جديد، لأن في تربتها رياح تلقح آثار الإسلام والخلافة، الخلافة التي سلطت على العالم الإسلامي لأكثر من ثلاثة قرون، الخلافة التي وحدت كلمة الأمة لولا انشقاقات وتحزبيات، لكنها كانت آخر مغارة تأوي إليها أفئدة الأمة جمعاء، وقد عمت في كوكب الأرض، ومدت جسرًا متينًا بين القارات الثلاث، من آسيا وأفريقيا وأوروبا، وفعلت كسفير أمين مع أنها بعدت من دار الإسلام أميالا وترامت من قلبها أشواطا، لكنها ثبتت ثبت الجبال الراسيات أمام كل من المشكلات والعراقيل التي انجرفت من كنائس أوروبا وانهمرت من سهول آسيا وصحارى أفريقيا، بل كانت لها أن تصدى الصراعات الداخلية التي أثرت جرحًا واسع العمق والألم.
لمحات من تركيا القديمة
من الخلافة العثمانية، ومن بلاطها وسلاطينها امتصت تركيا دماء الفخر وقوة الإرادة، وتألقت من بين الأمم والشعوب بهذه الملكة والمملكة القوية العارمة، رجال شدوا حزامهم لحماية الأدب والعلوم وبناء الحضارة والثقافة ونصرة المظلوم، عضلاتهم فتية وإرادتهم قوية، وما زالوا كذلك وقد اتسعت أسوار دولتهم بين القارات، وذلت لهم أسوار تستر وبلاط القسطنيطينية، بل خاضت إلى مجر، وبلقان، وصربيا، وبلغاريا، وأدرنة، وهذه الحروب التي مهدت الطرق لهم في أوروبا أودت بحياتها وأمنها الداخلي، لأنها حرضت وهيجت مشاعر النصرانية فتجمعوا وفعلوا معها فعل الثعلب المكار، وهكذا بدأت شعلة الحرب تستشيط وتستطير.
ففي تاريخ تركيا مسلسلات من البطولات، التي تبرر استماتتها والمخاطرة بنفسها لأجل الوطن والمجد، فإنه لما أصيب السلطان المراد العثماني في الحرب مع كوسوفا لم تنزلق الجنود ولم تذهب أنفسها هلعًا، بل تقدموا حتى رفعوا راية الانتصار، فإن هذا المشهد العظيم لا يرى إلا في تاريخ العثمانية وإلا في رجال تركيا العظيمة، قوادهم مثل خير الدين بربروس، كانوا أيضا يمثلون غاية الشجاعة والبسالة، ويقضون على التمرد والخروج على الدولة.
ولم يزل هذا الإعصار العثماني يزعزع عروش فرنسا وبريطانيا وإسبانيا والمغرب وتونس، وفيينا، حتى تم فتح صوماليا على يد سليمان، وكان هذا الفتح أكبر ضربة على وجه أوروبا وكبريائها، ويقول التاريخ: بأنه كان هنالك مليون مسلم تحت سطوة هذا الخليفة، سليمان القانوني.
وأما العثمانية وإسهاماتها في تنشيط نسائج الدعوة الإسلامية مشهورة وجدرية بالقراءة، ويقال عنهم كما حكى فارس المنابر عبد الحميد كشك «إنهم كانوا لو دخلوا المسجد ورأوا فيها المصاحف لم ينصرفوا منها مولين أدبارهم بل انصرفوا ووجوهم مقبلة نحو كلام الله»، وقد كانت سماتهم عالية الأهداف وعلى أساس من الأخوة، ومن دعوتهم انسلت أشعة الإسلام إلى حنادس أوروبا المتربعة حول المغريات والملذات الدنيوية، وأرسوا دعاة وعلماء لتعليم مبادئ الدين وقراءة القرآن، وبنوا مدارس على أساس السنة والتقاليد الإسلامية الساذجة، بل كانت الخلافة رائدة الفنون والعمارات، فمن أجلها نحقق ونقول: «أن للآثار أفكار».
وكانت النتيجة فوق ما توقعوا، لأن شعوب أوروبا كانت تتعرض لتشريدات وتهميشات من قبل الملوك الجبابرة، وكانت تحن إلى سلوة وإلى خلاص من هذه الحياة المكبلة، فأصبحت أوروبا تتعرف وتنهال على الإسلام، وكانت بداية ثورة هادئة انطلقت من الإسلام، فتركيا القديمة هي منسوجة بالإيمان والإخلاص، وهي عبارة عن شعب تحدى الجبال الصم والرجال المكرة، وهي لا تزال لامعة ومنشورة في التاريخ حتى عجزت التجديدات الزائفة التي ظهرت في العشرينيات لطمس معالم الخلافة المثالية.
إرهاصات تركيا الجديدة
تركيا، ما زالت حبكة الدهر وبطل التاريخ، ولم تزل وديانها زاخرة بالفتوحات والمعارك القدسية، لكنها غابت من جدران التاريخ عندما نفخ أتاترك كير العلمنة وإساءة الإسلام، وقد كان رجلا ذا وجهين، يشج بأيد ويأسو بأخرى، ولم يدرك الشعب هذا الماكر والمقامر إلا بعدما سمّرت جنازة الخلافة وصلبت تحت سمعهم وأبصارهم، هكذا انتهت الخلافة بكل الشين والوقاحة، بكل المذلة والهوان للعالم الإسلامي، لأن الخلافة مهما تفكك أمرها أو تشتت شملها كانت مصفا واحدا ومنبرا للأمة الإسلامية جمعاء.
تركيا فعلت فعل أشقائها من أندلس وقبرص وغرناطة، ورافقت معها في تشييع جنازة الأمة، ولم يندمل جرحها حتى الآن ولو من بعد تسعين عامًا على تلك الكارثة والمدلهمة، ولم تتحرر الأمة من ذكرياتها الأليمة بل ظلت بجدة المراثي وثرثرة الشعراء.
فإن تركيا لها ماض باسم وتاريخ تليد، بل فيها دروس وعبر للأمة، وهي تعلمها أسس النجاة والخلاص، لكن لو عادت تركيا إلى ذاتها واستنشقت من مجلداتها عطر العز والشموخ للاح في أفق الإسلام نجم يحيي الكون باسم السلام.
فإن من أكثر الأمور عجبًا أن نشهد صحوة إسلامية في بلد يلتزم بالعلمانية الشديدة، فإن تركيا وعلمانيتها تحاربان أوربا وسياستها، فإن سقوط الخلافة سنة 1924 كان حادثًا مروعًا كارثيًا، ترثي له قلوب المسلمين، فإن الكارثة كانت شمولية، حيث دمرت رموز الخلافة بل قضت على من ينادي بقضايا المسلمين ورفع عرائضهم إلى المنظر العام، لكن تركيا لم تركع أمام تقلبات شكلتها استبدادات أتاترك لتكريس العلمانية ومن حف حوله من الشباب الأتراك.
وكان الإسلام يرتصد كل حركة ويراقبها، حتى أطلق أول رصاصة من زناد سعيد بيران، لكنه كان وسط عيون حاقدة، ولم يمض على قيد الحياة بعيدا وتم إعدامه، ثم كانت نوبة عدنان مندريسي، وفعل ما فعل، وأعاد اللغة العربية إلى المآذن وضمن الدروس الدينية في المناهج، ولكن القضاء اختطفه وغيبه في أسلاك الجيش التركي الهلع، لأن شعلة الإيمان لو بدأت في قلوب أصالتها الإسلام والعشق مع الله لا تتوقف إلا بعد أتت على الأخضر واليابس وأعادت من تراثها سلالم الغد المناهض، ثم كانت نوبة نجم الدين أربكان وحزب السلامة، وكان ينادي «النظام العادل»، ويبرز جوفية العلمانية المتشددة، وكانت له حدة فكرة حتى لم تظهر بوجه إسلامي بل خاض المعركة باسم الإصلاح والتنمية والعدالة.
أرطغرل من جديد
وبعد تأسيس «حزب السلامة» التقى أربكان مع رجب طيب أردوغان وكان طالبًا في كلية الاقتصاد والسياسة بمرمرة، وأعجبت به هذه الحركة إعجابًا شديدًا واعتزم للمسير على درب أستاذه الموقر أربكان، ولكن عين المراقبة كانت تحوم على حزب السلامة، وسعوا في إلغاء هويتها وشرعيتها، حتى أعاد أربكان تشكيل حزب باسم «حزب الرفاه» سنة 1980، وهنا تنعطف القضية وتتجه نحو أخرى، حيث لمع أردغان نجمًا ساطعًا وأصبح رئيسًا لفرع الحزب في إسطنبول سنة 1985 ولم يبلغ من العمر إلا 31 فقط، وهذا الرجل الذي باع البطيخ في شوارع تركيا لم يلبث حتى تولى مقاليد الرئاسة ببلدية إسطنبول، وحقق مفاجأة كبيرة بهذا الفوز.
والمفاجأة الكبرى كانت صعود إسلامي إلى رئاسة إسطنبول، بل هو إقبال إصلاحي ولم ييأس شعب تركيا تحت ظل هذا «الأرطغرل الجديد»، إنجازات هائلة لم تخطر ببالهم منذ زمان، لأنها كانت تشكو انقلابات عسكرية متواصلة، لم تخمد نارها إلا أطارت أخرى عن قريب، فظلت تسمع نداءات من أصل التنمية والعدالة، واحتشدت وراء هالة أردغان القائد، وأسس حزبًا جديدًا باسم «حزب العدالة والتنمية» وانطلقت بمبادرات بناءة أدت إلى تغيير مجرى تركيا العلمانية، ونالت قبولًا واسعًا في أوساطها، وشاركت فيها رجالًا ونساء وشبابًا، وأثارت هذه الشعبية الجارفة قلقًا وضغوطًا في خلايا العلمانية، وفرشوا أشواكًا لإضناء حركتها وردع كتائبها لكنها نسفت آمالهم بفوز يسحق جميع العداة والمكرة، ولم يزل هذا الرجل يحقق المستحيل حتى سمعنا أصداءه في ليلة الانقلاب العسكري الفاشل، المحاولة المدبرة التي حاكتها «حماة تركيا» والتي باءت بالفشل الذريع.
أحبه لأجل كلمته الصادقة وإن سماها الأعدء «كلمة معسولة اصطناعية» لكن لها صدى واسعًا في عالم يصمت فيه الجبناء.
نعم، إنه الصوت الحر للعالم الصامت، الذي يستمد قوته من الشعب، وبصيص الأمل للملايين، إنه رفيق الغرباء، عاشت تركيا إلى جديد، وعاشت وعاشت، وكل التوفيق للأرطغرل القادم بإذن الله.
المصادر
10:00 21 أكتوبر, 2017
الإنسانية تحت رحمة السّائد
مع حلول عصر الأنوار الذي حلّ بالبشرية قبل قرون من الزّمان، نظّر أعلامه لفكرة جوهرية مفادها أن: الإنسانية مجموع متضامن ومتماسك على خلفية أنّ الإنسان أخ للإنسان على هذه البسيطة أو الكوكب الصغير.
ومع توالي القرون، أصبح لائحًا أنّ مبادئ الأنوار لا تغدو إلا أن تكون حبرًا على ورق وأفكارًا مثالية وجدت البشريّة نفسها عاجزة عن تحقيقها، رغم توافر كلّ الظروف المناسبة لذلك. إلّا أن الإنسان يأبى في كلّ مرّة إلّا أن يُغلّب جانبه الوحشي على الغايات والأهداف السّامية التّي يخطّها عقلاؤه. حتى أصبحنا في عالم اليوم نعيش لنتساءل.
أين ذهب البشر؟ أين يختبئون في حين يتصدّر الإنسان اللاإنساني الجزء الأمامي من خشبة المسرح؟ والمشهد بالطبع هو من صنيع الإعلام، والشبكات الاجتماعية، ومنتديات المناقشة، حيث يكثر العدوان والمضايقات اللّفظية التي يتلقّاها الإنسان دون ذنب اجترحه، فقط لأنّه أبدى رأيه المختلف (الإنساني). أيضا يجب ألّا ننسى مجال الحياة اليومية، حيث يسود عدم الاحترام، والشتائم، والوحشية، والتهديدات والعنف وغيرها من أعراض الانحدار الإنساني والأخلاقي.
فمن صور ما نعيشه اليوم في عصر إنساني يفتقد معاني الإنسانية هو أن من يتصدّر مراكب الشعوب والأمم في عصرنا، عصر الليبرالية الجديدة في مرحلتها المعولمة لم ينشغلوا بالمثاليات أو بما يجب أن يكون المجتمع والإنسان عليه ثقافة، وقيمًا، وأخلاقًا. بل اهتمّوا بما يحقّق المغانم المالية والمادية في اقتصاد ليس فيه شيء من أهداف الإنسانية، وقد سبق أن أشار الكثير من المفكرين إلى خطورة المرحلة الحالية من تاريخ الحياة البشرية. حيث أصبحنا لا نعير أدنى اهتمام للمجتمعي، والثقافي والإنساني. وميلنا نحو ثقافة عدوانية اتجاه المختلف وإقصائية اتجاه الأصوات الإنسانية فينا.
لا يمكن لعاقل مستبصر بأزمة العالم المعاصر، وما يصادف فيه الإنسان من مظاهر للعنف والإقصاء والعنصريّة الدّينية كما العرقيّة أن ينكر أنّ البشرية في ورطة حقيقية لا خلاص منها إلا بتحرير العالم من براثن الظلم والإرهاب والاستبداد الذي استشرى وأصبح سائدًا في كل الأوساط المجتمعية مهما بلغت من الرّقي والتمدّن ومهما انحدرت وهوت في بوتقة الجهل والتخلف والعنف.
هذه الظاهرة المرّة لا تقتصر على صقع واحد من أصقاع العالم، بل تعمّ وتسود أنّى حلّ الإنسان وارتحل. فمن الجليّ أنّ إنسان العصر أصبح مسلوب الإرادة، مسلوب الكرامة، مسلوب الحرية. رغم أنّ الفلسفة التي قامت عليها مجتمعاته (الحديثة) ترتكز على هذه الرّكائز الثلاث وتصنّفها كغايات للإجتماع البشري. فأين الخلل؟ مادام الإطار النّظري يتغيّى تحقيق المسلوب. ونشر ثقافة الحريّة والكرامة والإرادة الحرّة، وتحرير الإنسان من وحشيته وجشعه وأساليب حياته العتيقة، هذا إضافة إلى تحضيره وتمدينه وأنسنته.
من بين الحقائق الصّارخة، أنّ عالم القرن الحادي والعشرين لم يشذّ في طبيعته عن باقي الأزمان الغابرة، فهو عالم محكوم بمنطق القوّة والغلبة والبأس الشديد. عالم تتراجع فيه الأخلاق والمبادئ والقيم، لتسود في الوحشية والإجرام والإرهاب. عالم يتراجع فيه أصحاب الكفايات والمهارات والخُلق الحسن، ليسود فيه المجرمون والطّغاة الجبابرة والمجانين. عالم تتقهقر إنسانيته شيئًا فشيئًا، ولا يتقدّم المشهد فيه إلاّ من وضع رحمته جانبًا وتخلّى عنها. فالسّائد اليوم لا يختلف كثيرًا عن سائد الأمس، وإن كان مشيدًّا على دعائم القيم الإنسانية الجليلة.
هذا الواقع البائس تعيشه المجتمعات أيضًا، الدّيمقراطية كما الاستبدادية. ويجعل الحياة شيئًا فشيئًا أصعب على كلّ من اختار أن يسبح عكس التيّار ويندّد بهذه الأنوميا بتعبير دوركايم. فتواجد هذه الأصوات بل وتكاثرها يومًا بعد يوم رغم القيود والأغلال المفروضة عليها من المجتمع الرّافض للعلاج، وبدرجة أولى من كلّ مستفيد من الوضع السّائد يضيء الصّورة القاتمة التي رسمناها في الأسطر الأولى، ويبعث الأمل في أنّ المعدن الإنساني الأصيل لا يزال حيّا وقادرًا على الانبعاث من جديد وسط هذا الكمّ الهائل من العنف والدّمار والإجرام.
الإنسانية اليوم أمام اختبار جديد ومطبّات أصعب من أيّ وقت مضى، فنحن البشر البسطاء نستطيع لو صحّ منّا العزم ولم ننثن ونتثنّ أو ننكسر أو يتثلّم حدّنا، نستطيع تحقيق التّوازن بل والعودة إلى صدارة المشهد، وذلك بتشييد فلسفة جديدة للحياة، تُعلي من شأن الإنسانية والأخلاق والقيم، وتعزز روح الاختلاف والحوار. وترسيخ هذه المرامي لا بدّ أن يُستهلّ من ذواتنا فمجتمعاتنا فالعالمين.
تحميل المزيدكثيرة هي الأحيان التي يفرض فيها البحث العلمـي على المشتغلين به التعامل مع وقائع وظواهر حدثت في الماضي؛ وفي سبيل ذلك طَورت الجهود البحثية منهجًا استرداديًا (Retrospective) سمي في أغلب الأدبيات بالمنهج التاريخي، وذلك حتى يستخدمه أولئك الباحثون الذين يجدون حاجة لدراسة الأحداث التي وقعت في الماضي القريب أو البعيد، من خلال الرجوع إلى مصادر معينة تَشي بهذه الأحداث.
وقد توسعت الكثير من كتابات العلوم الاجتماعية في الحديث عن هذا المنهج دونما تركيز كاف على العلم الذي يشكل موضوعًا لهذا المنهج؛ وقد اعتبـر هذا الأمر بمثابة الشطط الفكري الذي لا طائل من ورائه؛ ذلك أن التطرق لمفهوم المنهج التاريخي لا يمكن أن ينفصل عن تطور مفهوم التاريخ في حد ذاته.
وفي هذا الاتجاه؛ يجب على أي تناول لمفهوم التاريخ أن يَمُرَّ بمحك الضبط اللغوي؛ حيث إن مصطلح التاريخ يتقاطع بنيويًا مع مصطلح آخر قريب منه؛ هو مصطلح (التأريخ) ونظرًا لكون العلاقة بين هذين المصطلحين كانت ولا زالت تشكل هاجسًا فنيًا حال دون ضبط مفهوم التاريخ بشكل لائق، فقد وجب اعادة النظر في هذه العلاقة بما يتلاءم والتحكم في مفهوم التاريخ.
فقد جاء في الصحاح قول الجوهري في مادة أرّخ: أن «التأريخ هو التعريف بالوقت، والتوريخ مثله، فيقال: أرّخ الكتاب ليوم كذا أي: وقّته، ويقال أيضًا: أرّخت وورخت» ويعتقد بعض الباحثين أن أصل التسمية جاء من اللغات السامية القديمة، كاللغة الأكدية واللغة البابلية؛ وفي موضع آخر دل فعل أرخ على عملية رصد الحدث من خلال ربطه بوقت حدوثه؛ وبهذا فـالتأريخ يدل على فعل التدوين وتكوين المادة التاريخية؛ ونقل الأحدث وتوثيقها سواء كان هذا الفعل منظمًا أو عفويًا.
أما التاريخ فهو يشير إلى الأحداث الماضية في حد ذاتها، كما كانت في الماضي سواء تعرفنا على هذه الأحداث أو لم نتعرف عليها.
ويمكن أن يتضح لنا الفرق بين التأريخ والتاريخ بتمثيلهما بالخارطة والموقع على الترتيب؛ حيث إنه وعلى الرغم من عدم مقدرتنا على إدراك التاريخ إلا بالاستناد للتأريخ إلا أن التاريخ يبقى أوسع من التأريخ؛ حيث إن الأحداث التاريخية التي لم تشملها عملية التأريخ أكبـر بكثيـر من تلك الأحداث التي أُرِّخت ووصلت إلينا؛ إضافة إلى كون أن الحقيقة التاريخية تتلخص في معرفة الحدث كما كان في الواقع الماضي؛ وبما أنه حدثٌ تاريخي فلا بد وأن يكون قد وقع فعلا ومن ثم لا يوجد إمكانية لإطلاق حكم على التاريخ بأنه صحيح أو خاطئ وهذا يختلف عن تقييمنا للحدث من حيث مقبوليته المنطقية والأخلاقية تبعًا للمعايير الاجتماعية أو الفنية؛ أما في التأريخ فهناك مجال واسع للقول بالصحة أو الخطأ، وذلك لإمكانية تعدد عمليات التأريخ لنفس الحدث التاريخي؛ ولارتباطها بشخص المؤرخ وظروف التأريخ.
وبهذا صارت كلمة التاريخ تدل على سلسلة الحوادث والوقائع الماضية التي قدّر أنها وقعت للإنسان ضمن حيز تقاطع فيه الزمان مع المكان.
هذا ويخطئ كثير من الباحثين والمفكرين أيضًا عندما يقعون في الاشتباه بين مفهومي (التاريخ) و(علم التاريخ) حيث نجد مثلا أن (كمال حيدر؛ 1995) في كتابة (منهج البحث الأثري والتاريخي) يُعرف التاريخ بأنه «فرع من فروع المعارف البشرية؛ قوامه التحري عن حياة المجتمعات في الماضي والتي يصل إليها الباحث التاريخي وفق منهج خاص» وكذا نجد أن (قاسم عبده؛ 2000) في كتابه (تطور منهج البحث في الدراسات التاريخية) يصف التاريخ بأنه «دراسة المسيرة الحضارية لبنى الإنسان أو الماضي الإنساني في نظام أكاديمي من أجل الكشف عن غموض هذا الماضي لتحقيق المعرفة بالذات الإنسانية».
أبيستيمولوجيًا يختلف علم التاريخ عن التاريخ في حد ذاته؛ باعتبار أن التاريخ هو الموضوع العام لعلم التاريخ؛ في حين أن هذا الأخيـر يشير إلى تلك الدراسة المنظمة للمواد التاريخية الحاملة لحيثيات الوقائع المستهدفة بالتفسير ، وذلك من أجل الوصول إلى الروابط الظاهرة والخفية التي شكلتها عبر الزمان والمكان.
وبهذا فـعلم التاريخ يتميـز باعتماده على المنهج العلمـي في التعامل مع القضايا التاريخية؛ كما أن هذا العلم قد امتد مؤخرًا ليشمل عملية التأريخ في حد ذاتها؛ والتي كانت سابقًا تمارس بشكل عفوي أو من طرف قطاعات غيـر أكاديمية؛ حيث طوّر المختصون في علم التاريخ مزيدًا من الأدوات العلمية التي يمكن أن تستخدم في عملية التأريخ فضلا عن تصدي بعض المؤرخين لعملية التأريخ بشكل مباشر.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
12:00 21 أكتوبر, 2017
من العز بن عبد السلام إلى الصادق الغرياني.. أمّا بعد
من عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسنِ إلى الصّادق بن عبد الرحمن بن علي الغرياني، فإنِّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أمَّا بَعْدُ:
فإنه في ليلةٍ من ليالي دمشق الباردة، كنتُ فِي شبابي نائمًا مع بعض الطلاب في زاوية من زوايا الجامع الأمَوي، فاحتلمتُ في ليلتي تلك، فاستيقظتُ قبيلَ الفجر فلم أجد ماءً أغتسلُ به؛ إلا بركة في طرف المسجد شديدةَ البرودة، فخلعتُ ثيابي وأنا أرتجفُ من البرد، وغَالبتُ نفسي فألقيتُها في تلك البركة واغتسلتُ بالماء البارد، ثم خرجت أشهقُ من شدّة البرد، فأُغمِىَ عليّ، ثم استيقظت وجلست حتى طلع الفجر فأَغفيت إغفاءةً بسيطة، سمعتُ فيها صوتًا يقول: يا ابن عبد السلام أتريد العلم أم العمل؟ فقلتُ أريد العلمَ لأنه يهدي إلى العمل، فأصبح بي بكرم الله وفضلهِ ما تعلم.
أخـــي الصادق اسمًا وفعلًا..
قد علمتُ أنّك أفتيتَ بعدم جواز الذبح قبل الوقوف بعرفة سنة 2009 يوم أن أمر ذلك الحاكم المستبد الظالم «القذافي»، بذبح الأضاحي قبل ذلك بيوم، ولقد أُعجبت وذُهلت عندما أضيف لي أنّك فعلت هذا في القنوات الفضائية التّابعة للقذافي، ولم تخشَ في ذلك إلا الله.
أخـــي الحبيب..
لقد عشتُ في الشام فترةً من حياتي، وعايشت تفتت دولة الإسلام إلى دول يتنافس أمراؤها على الملك، وأصبح بعضهم يقاتل بعضًا ويتحالف مع الصليبيين ليتفرغ لقتال إخوانه وبني عمّه، ولما كُنتُ في دمشق تحالفَ ملكها مع الصليبيين وسلّم لهم بعض حصون الشام وقلاعها، وكنتُ قاضيًا ومفتيًا، فصعدتُ المنبر وأنكرت على الملك وختمتُ الخطبة بقولي: «اللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا تُعِزُّ فيه وليَّك، وتُذِلُّ فيه عدوَّك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر».
حتى إذا أتاني نبأُ مُـكالمتك مع قناة (الجزيرة) في 20 فبراير من عام 2011 ومن وسط طرابُلس، وبفتواك التي أفتيتَها في تِلك المُداخلة بوجُوب نصرة أهل بنغازي والذين استفحل فيهم القتل لأنّهم خرجوا في مظاهراتٍ ضد «القذافي»، فامتلأ قلبي فخرًا بك خاصة لمّا سمعتُ قولك في تلك المكالمة: «إنَّ ما يحدثُ في ليبيا شيءٌ لا يطاق، ولا يجبُ السُّكوتُ عليه، آلةٌ حربيّةٌ ثقيلةٌ تواجه مدنيين صُدورهم عارية»، ثم خطابك للعسكر من أتباع القذافي بالتذكير والتحذير، ثم نطقت بها صريحة مدوّية فزاد فخري بك أضعافًا مضاعفة لمّا قلت: «واجبٌ على كل مواطن غيور في هذا البلدِ وعلى أهل طرابلس وكل المدن الليبية أن يقفوا وقفةً واحدةً حتى يتوقف هذا الظلم على أهل بنغازي»، وسمعتُك وأنت تقول: «فرضُ عينٍ على كل مسلم أن يقومَ بكلِّ ما يقدرُ عليه لإيقاف هذه الدماء، فرضُ عينٍ على كل الليبيين أن يخرجوا ليوقفُوا هذه الدماء».
أخـــي الشيخ..
لقد قرأتَ أنت عن موقفي لما اجتاحَ التتار بغداد وتقدّموا نحو مصر، وأنّ القلوب بلغتِ الحناجر، فأسرعتُ إلى سلطان مصر واجتمعتُ بعساكرها وخطبت فيهم قائلا: «اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر»، ثم كانت أزمة المال القليل الذي لا يكفي لمواجهة العدو، فقلتُ للسلطان: إذا أحضرت ما عندك وعند حريمِك وأحضر الأمراء ما عندَهم من الحُلي وفرَّقته في الجيش ولم يقُم بكفايتهم فعند ذلك نطلب القرض من التجار، وأما قبل ذلك فلا، فأحضر السلطان والعسكر ما عندهم بين يدي وامتثلوا أمري فانتصرنا بفضل الله.
ولقد سَمعتُ أنا عنك بدوري ما فعلتَهُ عندمَا أراد المُجرم خليفة حفتر الانقلاب على الدولة، ووقفتك التي سيخلّدها التّاريخ، وتوجيهاتك التي تنبع من قلبِ عَالمٍ عَلَمٍ مُحب لبلاده، ثم وقوفك في وجه عصابات الحرابة التي تقطع الطرق، وفتاواك بخصوصهم، ففتواك في حق من يقفل صمّامات النفط، وكلامُك في حقّ عصابات سرقة المال العام من المسؤولين، فما وُفِّقْتُ لكلمة تُوفيك حقك من المدح.
أخـــي مفتي عام ليبيا..
لقد قدتُ أهلي لصد الفرنجة الصليبين، وقدت أنت أهلك لخلع محرف كلام رب العالمين، ولقد والله عاصرتُ عددًا من الملوك والسلاطين فحافظت على النصح لله ولرسوله ولعامة المسلمين، وكذلك فعلت أنت.
ولقد كان معي في خروجي من القاهرة طلاب العلم وتلاميذه والعلماء والصُّلحاء والتجار والصناع، وكذلك من هم معك اليوم، وسيلحق بك الباقون، إن شاء الله تعالى.
أخـــي وخليليَ الذي لم أره..
أحمد الله أنك أنتَ أنتَ على الحال الذي نعرف، فمثلك والله رجل بأمة، فذكّر الأمة بأمجادها لتستعيد سيرتها الأولى، وإذا تنكرت البشرية لمواقفنا ومواقفكم، فمن يلوم الحاسد المبغض أو الجاهل المنكر، لكن من يعذر مسلمًا بجهله لمثل هذا التاريخ العريق والنضال الرفيع.
ذكّرهم بقول الشاعر الذي يندبُ حظّ المسلمين على نسيان الأمجاد والجذور، لعلّ الذكرى تنفعُهم:
بالله سَلْ خَلْفَ بَحْرِ الرُّومِ عَنْ عَرَبٍ بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا
استَرْشَـدَ الغَرْبُ بالماضي فَأَرْشَدَهُ ونحـن كانَ لنـا ماضٍ نسينـاه
أخـــي الصادق الغرياني..
سمعتُ أنه في عصركم حُكم علىَّ بالبدعة والخروج عن منهج السلف الصالح، وأنا الذي كان العلماء على مر العصور يشهدون لي بالعلم ومحاربة البدعة، وأعلمُ أن الراسخين في العلم في عصركم، شهدوا لك بأنّك جمعتَ بين فنون العلم من الحديث، والفقه، والأصول، والعربية، وأعلمُ أنّ كتبكَ تدرّس لطلبة العلم في سائر البلاد، وأعلمُ أنك العالم الذي سيخلّف من بعده العلمَ والمواقِفَ الخالدة في قوْل الحقّ، فما بال القوم يحكمون عليك بمثل ما حكموا عليّ به (البدعة والخروج عن منهج السلف)؟
هل غرّهم منك أنك أقوى منهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنك أغزر منهم علمًا وورعًا، وأنّك خيرهُم قيامًا في الحقّ وشجاعة وقوة جَنانٍ وفصاحةَ لسان؟
أخـــي يا ابن عبدالرحمن..
أنتُم اليوم تمرُّون بمثلِ ما كان يمر به المسلمونَ في عصرنا، دويلاتٌ وإماراتٌ ممزّقة، وعصرٌ الأمة أغْنَى ما تكون فيه عن طالبِ علمٍ يزيدُ في التمزيق، عصرٌ يقتنع فيه الشابُّ بالقليل ثم لا يكلّفه «العلم» أكثر من كُتيبات وأشرطة، ولا يعرفُ من المنكرات والبدع التي يستشرف لمحاربَتها إلا بعضَ مسائل الخلاف التي مرّت قرونٌ على اختلاف المسلمين فيها من غير إنكار، عصرٌ الأمة في أشد الحاجة فيه إلى الانتفاع بشبابها الذي تعطل الانتفاع بهم لما اجتروا ثقافة معاصرة سطحية تنتقل به في يوم وليلة إلى مقام يستأثر لنفسه الفوزَ بالفرقة الناجية، ثم يستنكف ويشمئز من السماع لك ولغيرك من العلماء الراسخين، ثم يتطور موقفه فينعطف على الأكابر والمتقدمين والمتأخرين بالتبديع والتحذير.
ولقد سمعتُ أن قرابة قرنٍ من الزّمان مرّ على تأسيسِ منهجٍ أرادوا فيه أن يُحاربوا البدع وأن يوحدوا صُفوف الأمة؛ فانتهى هذا التوحيد والجمع إلى تبديعيَ (العز ابن عبد السلام) وتلاميذي!!
أخـــي أيها الجبل الأشم..
ناشدتُك الله أن تثْبتُ على ما أنت عليه، وأن تَعمل مع العُلماء الرّاسخين في ليبيا على تحريرِ العُقول لتميّز الخبيثَ من الطيب والغثّ من السَّمين.
ثم اعْلمْ رحمَك الله أنّك قامةٌ وقيمَةٌ صنعتْ وتصنع فارقًا حقيقيًا لبلدِك وأهلك
فخُذْها مِني صَريحة بِلا مِراء، أنتَ سُلْطَانُ العُلَمَاء.
11:00 21 أكتوبر, 2017
أردوغان.. الأرطغرل القادم من تركيا
كنت أحب صدام حسين وبشاشته، وكنت أحب عروبته، لأنه كان عربيًا قبل أن يكون جائرًا أو سلطانًا، لكن الزمان وتقلباته خيبت أملي وقصفت عليّ براميل اليأس، وكنت شغوفًا بقذافي ودولته الأبية ووحدتها وعزتها المتحدية، وكنت متابعا لأي حركة تنفجر من إحساس المجد وأحن إلى عالم يرفع فيه الإسلام راية المجد والشرف.
تركيا الجديدة، التي تشع قبسات الأمل وتبعث من تاريخها الأبي بحلته المتنورة، لقد حدق أطرافي ذلك الرجل العملاق، رجب طيب أردوغان، الذي يعرفه الطفل والرجل، ويصفه الشعر والنثر، وتحدو إليه أرواح المجد حتى لا تضمحل حكومته ولا ترتحل قبضته، مع أني أصفه عنقاء نهض من ركام الانقلاب وصقرا تحلق فوق سماء الدين الإسلامي، وقد أخذت الكثير هالته الإسلامية ونبضته للأخوة والوفاء والعالم الإسلامي، فإن تركيا التي تقتنصها معالم البطولات لا بد من إعادة هذا التراث التليد وبناء دولة من جديد، لأن في تربتها رياح تلقح آثار الإسلام والخلافة، الخلافة التي سلطت على العالم الإسلامي لأكثر من ثلاثة قرون، الخلافة التي وحدت كلمة الأمة لولا انشقاقات وتحزبيات، لكنها كانت آخر مغارة تأوي إليها أفئدة الأمة جمعاء، وقد عمت في كوكب الأرض، ومدت جسرًا متينًا بين القارات الثلاث، من آسيا وأفريقيا وأوروبا، وفعلت كسفير أمين مع أنها بعدت من دار الإسلام أميالا وترامت من قلبها أشواطا، لكنها ثبتت ثبت الجبال الراسيات أمام كل من المشكلات والعراقيل التي انجرفت من كنائس أوروبا وانهمرت من سهول آسيا وصحارى أفريقيا، بل كانت لها أن تصدى الصراعات الداخلية التي أثرت جرحًا واسع العمق والألم.
لمحات من تركيا القديمة
من الخلافة العثمانية، ومن بلاطها وسلاطينها امتصت تركيا دماء الفخر وقوة الإرادة، وتألقت من بين الأمم والشعوب بهذه الملكة والمملكة القوية العارمة، رجال شدوا حزامهم لحماية الأدب والعلوم وبناء الحضارة والثقافة ونصرة المظلوم، عضلاتهم فتية وإرادتهم قوية، وما زالوا كذلك وقد اتسعت أسوار دولتهم بين القارات، وذلت لهم أسوار تستر وبلاط القسطنيطينية، بل خاضت إلى مجر، وبلقان، وصربيا، وبلغاريا، وأدرنة، وهذه الحروب التي مهدت الطرق لهم في أوروبا أودت بحياتها وأمنها الداخلي، لأنها حرضت وهيجت مشاعر النصرانية فتجمعوا وفعلوا معها فعل الثعلب المكار، وهكذا بدأت شعلة الحرب تستشيط وتستطير.
ففي تاريخ تركيا مسلسلات من البطولات، التي تبرر استماتتها والمخاطرة بنفسها لأجل الوطن والمجد، فإنه لما أصيب السلطان المراد العثماني في الحرب مع كوسوفا لم تنزلق الجنود ولم تذهب أنفسها هلعًا، بل تقدموا حتى رفعوا راية الانتصار، فإن هذا المشهد العظيم لا يرى إلا في تاريخ العثمانية وإلا في رجال تركيا العظيمة، قوادهم مثل خير الدين بربروس، كانوا أيضا يمثلون غاية الشجاعة والبسالة، ويقضون على التمرد والخروج على الدولة.
ولم يزل هذا الإعصار العثماني يزعزع عروش فرنسا وبريطانيا وإسبانيا والمغرب وتونس، وفيينا، حتى تم فتح صوماليا على يد سليمان، وكان هذا الفتح أكبر ضربة على وجه أوروبا وكبريائها، ويقول التاريخ: بأنه كان هنالك مليون مسلم تحت سطوة هذا الخليفة، سليمان القانوني.
وأما العثمانية وإسهاماتها في تنشيط نسائج الدعوة الإسلامية مشهورة وجدرية بالقراءة، ويقال عنهم كما حكى فارس المنابر عبد الحميد كشك «إنهم كانوا لو دخلوا المسجد ورأوا فيها المصاحف لم ينصرفوا منها مولين أدبارهم بل انصرفوا ووجوهم مقبلة نحو كلام الله»، وقد كانت سماتهم عالية الأهداف وعلى أساس من الأخوة، ومن دعوتهم انسلت أشعة الإسلام إلى حنادس أوروبا المتربعة حول المغريات والملذات الدنيوية، وأرسوا دعاة وعلماء لتعليم مبادئ الدين وقراءة القرآن، وبنوا مدارس على أساس السنة والتقاليد الإسلامية الساذجة، بل كانت الخلافة رائدة الفنون والعمارات، فمن أجلها نحقق ونقول: «أن للآثار أفكار».
وكانت النتيجة فوق ما توقعوا، لأن شعوب أوروبا كانت تتعرض لتشريدات وتهميشات من قبل الملوك الجبابرة، وكانت تحن إلى سلوة وإلى خلاص من هذه الحياة المكبلة، فأصبحت أوروبا تتعرف وتنهال على الإسلام، وكانت بداية ثورة هادئة انطلقت من الإسلام، فتركيا القديمة هي منسوجة بالإيمان والإخلاص، وهي عبارة عن شعب تحدى الجبال الصم والرجال المكرة، وهي لا تزال لامعة ومنشورة في التاريخ حتى عجزت التجديدات الزائفة التي ظهرت في العشرينيات لطمس معالم الخلافة المثالية.
إرهاصات تركيا الجديدة
تركيا، ما زالت حبكة الدهر وبطل التاريخ، ولم تزل وديانها زاخرة بالفتوحات والمعارك القدسية، لكنها غابت من جدران التاريخ عندما نفخ أتاترك كير العلمنة وإساءة الإسلام، وقد كان رجلا ذا وجهين، يشج بأيد ويأسو بأخرى، ولم يدرك الشعب هذا الماكر والمقامر إلا بعدما سمّرت جنازة الخلافة وصلبت تحت سمعهم وأبصارهم، هكذا انتهت الخلافة بكل الشين والوقاحة، بكل المذلة والهوان للعالم الإسلامي، لأن الخلافة مهما تفكك أمرها أو تشتت شملها كانت مصفا واحدا ومنبرا للأمة الإسلامية جمعاء.
تركيا فعلت فعل أشقائها من أندلس وقبرص وغرناطة، ورافقت معها في تشييع جنازة الأمة، ولم يندمل جرحها حتى الآن ولو من بعد تسعين عامًا على تلك الكارثة والمدلهمة، ولم تتحرر الأمة من ذكرياتها الأليمة بل ظلت بجدة المراثي وثرثرة الشعراء.
فإن تركيا لها ماض باسم وتاريخ تليد، بل فيها دروس وعبر للأمة، وهي تعلمها أسس النجاة والخلاص، لكن لو عادت تركيا إلى ذاتها واستنشقت من مجلداتها عطر العز والشموخ للاح في أفق الإسلام نجم يحيي الكون باسم السلام.
فإن من أكثر الأمور عجبًا أن نشهد صحوة إسلامية في بلد يلتزم بالعلمانية الشديدة، فإن تركيا وعلمانيتها تحاربان أوربا وسياستها، فإن سقوط الخلافة سنة 1924 كان حادثًا مروعًا كارثيًا، ترثي له قلوب المسلمين، فإن الكارثة كانت شمولية، حيث دمرت رموز الخلافة بل قضت على من ينادي بقضايا المسلمين ورفع عرائضهم إلى المنظر العام، لكن تركيا لم تركع أمام تقلبات شكلتها استبدادات أتاترك لتكريس العلمانية ومن حف حوله من الشباب الأتراك.
وكان الإسلام يرتصد كل حركة ويراقبها، حتى أطلق أول رصاصة من زناد سعيد بيران، لكنه كان وسط عيون حاقدة، ولم يمض على قيد الحياة بعيدا وتم إعدامه، ثم كانت نوبة عدنان مندريسي، وفعل ما فعل، وأعاد اللغة العربية إلى المآذن وضمن الدروس الدينية في المناهج، ولكن القضاء اختطفه وغيبه في أسلاك الجيش التركي الهلع، لأن شعلة الإيمان لو بدأت في قلوب أصالتها الإسلام والعشق مع الله لا تتوقف إلا بعد أتت على الأخضر واليابس وأعادت من تراثها سلالم الغد المناهض، ثم كانت نوبة نجم الدين أربكان وحزب السلامة، وكان ينادي «النظام العادل»، ويبرز جوفية العلمانية المتشددة، وكانت له حدة فكرة حتى لم تظهر بوجه إسلامي بل خاض المعركة باسم الإصلاح والتنمية والعدالة.
أرطغرل من جديد
وبعد تأسيس «حزب السلامة» التقى أربكان مع رجب طيب أردوغان وكان طالبًا في كلية الاقتصاد والسياسة بمرمرة، وأعجبت به هذه الحركة إعجابًا شديدًا واعتزم للمسير على درب أستاذه الموقر أربكان، ولكن عين المراقبة كانت تحوم على حزب السلامة، وسعوا في إلغاء هويتها وشرعيتها، حتى أعاد أربكان تشكيل حزب باسم «حزب الرفاه» سنة 1980، وهنا تنعطف القضية وتتجه نحو أخرى، حيث لمع أردغان نجمًا ساطعًا وأصبح رئيسًا لفرع الحزب في إسطنبول سنة 1985 ولم يبلغ من العمر إلا 31 فقط، وهذا الرجل الذي باع البطيخ في شوارع تركيا لم يلبث حتى تولى مقاليد الرئاسة ببلدية إسطنبول، وحقق مفاجأة كبيرة بهذا الفوز.
والمفاجأة الكبرى كانت صعود إسلامي إلى رئاسة إسطنبول، بل هو إقبال إصلاحي ولم ييأس شعب تركيا تحت ظل هذا «الأرطغرل الجديد»، إنجازات هائلة لم تخطر ببالهم منذ زمان، لأنها كانت تشكو انقلابات عسكرية متواصلة، لم تخمد نارها إلا أطارت أخرى عن قريب، فظلت تسمع نداءات من أصل التنمية والعدالة، واحتشدت وراء هالة أردغان القائد، وأسس حزبًا جديدًا باسم «حزب العدالة والتنمية» وانطلقت بمبادرات بناءة أدت إلى تغيير مجرى تركيا العلمانية، ونالت قبولًا واسعًا في أوساطها، وشاركت فيها رجالًا ونساء وشبابًا، وأثارت هذه الشعبية الجارفة قلقًا وضغوطًا في خلايا العلمانية، وفرشوا أشواكًا لإضناء حركتها وردع كتائبها لكنها نسفت آمالهم بفوز يسحق جميع العداة والمكرة، ولم يزل هذا الرجل يحقق المستحيل حتى سمعنا أصداءه في ليلة الانقلاب العسكري الفاشل، المحاولة المدبرة التي حاكتها «حماة تركيا» والتي باءت بالفشل الذريع.
أحبه لأجل كلمته الصادقة وإن سماها الأعدء «كلمة معسولة اصطناعية» لكن لها صدى واسعًا في عالم يصمت فيه الجبناء.
نعم، إنه الصوت الحر للعالم الصامت، الذي يستمد قوته من الشعب، وبصيص الأمل للملايين، إنه رفيق الغرباء، عاشت تركيا إلى جديد، وعاشت وعاشت، وكل التوفيق للأرطغرل القادم بإذن الله.
المصادر
10:00 21 أكتوبر, 2017
الإنسانية تحت رحمة السّائد
مع حلول عصر الأنوار الذي حلّ بالبشرية قبل قرون من الزّمان، نظّر أعلامه لفكرة جوهرية مفادها أن: الإنسانية مجموع متضامن ومتماسك على خلفية أنّ الإنسان أخ للإنسان على هذه البسيطة أو الكوكب الصغير.
ومع توالي القرون، أصبح لائحًا أنّ مبادئ الأنوار لا تغدو إلا أن تكون حبرًا على ورق وأفكارًا مثالية وجدت البشريّة نفسها عاجزة عن تحقيقها، رغم توافر كلّ الظروف المناسبة لذلك. إلّا أن الإنسان يأبى في كلّ مرّة إلّا أن يُغلّب جانبه الوحشي على الغايات والأهداف السّامية التّي يخطّها عقلاؤه. حتى أصبحنا في عالم اليوم نعيش لنتساءل.
أين ذهب البشر؟ أين يختبئون في حين يتصدّر الإنسان اللاإنساني الجزء الأمامي من خشبة المسرح؟ والمشهد بالطبع هو من صنيع الإعلام، والشبكات الاجتماعية، ومنتديات المناقشة، حيث يكثر العدوان والمضايقات اللّفظية التي يتلقّاها الإنسان دون ذنب اجترحه، فقط لأنّه أبدى رأيه المختلف (الإنساني). أيضا يجب ألّا ننسى مجال الحياة اليومية، حيث يسود عدم الاحترام، والشتائم، والوحشية، والتهديدات والعنف وغيرها من أعراض الانحدار الإنساني والأخلاقي.
فمن صور ما نعيشه اليوم في عصر إنساني يفتقد معاني الإنسانية هو أن من يتصدّر مراكب الشعوب والأمم في عصرنا، عصر الليبرالية الجديدة في مرحلتها المعولمة لم ينشغلوا بالمثاليات أو بما يجب أن يكون المجتمع والإنسان عليه ثقافة، وقيمًا، وأخلاقًا. بل اهتمّوا بما يحقّق المغانم المالية والمادية في اقتصاد ليس فيه شيء من أهداف الإنسانية، وقد سبق أن أشار الكثير من المفكرين إلى خطورة المرحلة الحالية من تاريخ الحياة البشرية. حيث أصبحنا لا نعير أدنى اهتمام للمجتمعي، والثقافي والإنساني. وميلنا نحو ثقافة عدوانية اتجاه المختلف وإقصائية اتجاه الأصوات الإنسانية فينا.
لا يمكن لعاقل مستبصر بأزمة العالم المعاصر، وما يصادف فيه الإنسان من مظاهر للعنف والإقصاء والعنصريّة الدّينية كما العرقيّة أن ينكر أنّ البشرية في ورطة حقيقية لا خلاص منها إلا بتحرير العالم من براثن الظلم والإرهاب والاستبداد الذي استشرى وأصبح سائدًا في كل الأوساط المجتمعية مهما بلغت من الرّقي والتمدّن ومهما انحدرت وهوت في بوتقة الجهل والتخلف والعنف.
هذه الظاهرة المرّة لا تقتصر على صقع واحد من أصقاع العالم، بل تعمّ وتسود أنّى حلّ الإنسان وارتحل. فمن الجليّ أنّ إنسان العصر أصبح مسلوب الإرادة، مسلوب الكرامة، مسلوب الحرية. رغم أنّ الفلسفة التي قامت عليها مجتمعاته (الحديثة) ترتكز على هذه الرّكائز الثلاث وتصنّفها كغايات للإجتماع البشري. فأين الخلل؟ مادام الإطار النّظري يتغيّى تحقيق المسلوب. ونشر ثقافة الحريّة والكرامة والإرادة الحرّة، وتحرير الإنسان من وحشيته وجشعه وأساليب حياته العتيقة، هذا إضافة إلى تحضيره وتمدينه وأنسنته.
من بين الحقائق الصّارخة، أنّ عالم القرن الحادي والعشرين لم يشذّ في طبيعته عن باقي الأزمان الغابرة، فهو عالم محكوم بمنطق القوّة والغلبة والبأس الشديد. عالم تتراجع فيه الأخلاق والمبادئ والقيم، لتسود في الوحشية والإجرام والإرهاب. عالم يتراجع فيه أصحاب الكفايات والمهارات والخُلق الحسن، ليسود فيه المجرمون والطّغاة الجبابرة والمجانين. عالم تتقهقر إنسانيته شيئًا فشيئًا، ولا يتقدّم المشهد فيه إلاّ من وضع رحمته جانبًا وتخلّى عنها. فالسّائد اليوم لا يختلف كثيرًا عن سائد الأمس، وإن كان مشيدًّا على دعائم القيم الإنسانية الجليلة.
هذا الواقع البائس تعيشه المجتمعات أيضًا، الدّيمقراطية كما الاستبدادية. ويجعل الحياة شيئًا فشيئًا أصعب على كلّ من اختار أن يسبح عكس التيّار ويندّد بهذه الأنوميا بتعبير دوركايم. فتواجد هذه الأصوات بل وتكاثرها يومًا بعد يوم رغم القيود والأغلال المفروضة عليها من المجتمع الرّافض للعلاج، وبدرجة أولى من كلّ مستفيد من الوضع السّائد يضيء الصّورة القاتمة التي رسمناها في الأسطر الأولى، ويبعث الأمل في أنّ المعدن الإنساني الأصيل لا يزال حيّا وقادرًا على الانبعاث من جديد وسط هذا الكمّ الهائل من العنف والدّمار والإجرام.
الإنسانية اليوم أمام اختبار جديد ومطبّات أصعب من أيّ وقت مضى، فنحن البشر البسطاء نستطيع لو صحّ منّا العزم ولم ننثن ونتثنّ أو ننكسر أو يتثلّم حدّنا، نستطيع تحقيق التّوازن بل والعودة إلى صدارة المشهد، وذلك بتشييد فلسفة جديدة للحياة، تُعلي من شأن الإنسانية والأخلاق والقيم، وتعزز روح الاختلاف والحوار. وترسيخ هذه المرامي لا بدّ أن يُستهلّ من ذواتنا فمجتمعاتنا فالعالمين.
عرض التعليقات
كثيرة هي الأحيان التي يفرض فيها البحث العلمـي على المشتغلين به التعامل مع وقائع وظواهر حدثت في الماضي؛ وفي سبيل ذلك طَورت الجهود البحثية منهجًا استرداديًا (Retrospective) سمي في أغلب الأدبيات بالمنهج التاريخي، وذلك حتى يستخدمه أولئك الباحثون الذين يجدون حاجة لدراسة الأحداث التي وقعت في الماضي القريب أو البعيد، من خلال الرجوع إلى مصادر معينة تَشي بهذه الأحداث.
وقد توسعت الكثير من كتابات العلوم الاجتماعية في الحديث عن هذا المنهج دونما تركيز كاف على العلم الذي يشكل موضوعًا لهذا المنهج؛ وقد اعتبـر هذا الأمر بمثابة الشطط الفكري الذي لا طائل من ورائه؛ ذلك أن التطرق لمفهوم المنهج التاريخي لا يمكن أن ينفصل عن تطور مفهوم التاريخ في حد ذاته.
وفي هذا الاتجاه؛ يجب على أي تناول لمفهوم التاريخ أن يَمُرَّ بمحك الضبط اللغوي؛ حيث إن مصطلح التاريخ يتقاطع بنيويًا مع مصطلح آخر قريب منه؛ هو مصطلح (التأريخ) ونظرًا لكون العلاقة بين هذين المصطلحين كانت ولا زالت تشكل هاجسًا فنيًا حال دون ضبط مفهوم التاريخ بشكل لائق، فقد وجب اعادة النظر في هذه العلاقة بما يتلاءم والتحكم في مفهوم التاريخ.
فقد جاء في الصحاح قول الجوهري في مادة أرّخ: أن «التأريخ هو التعريف بالوقت، والتوريخ مثله، فيقال: أرّخ الكتاب ليوم كذا أي: وقّته، ويقال أيضًا: أرّخت وورخت» ويعتقد بعض الباحثين أن أصل التسمية جاء من اللغات السامية القديمة، كاللغة الأكدية واللغة البابلية؛ وفي موضع آخر دل فعل أرخ على عملية رصد الحدث من خلال ربطه بوقت حدوثه؛ وبهذا فـالتأريخ يدل على فعل التدوين وتكوين المادة التاريخية؛ ونقل الأحدث وتوثيقها سواء كان هذا الفعل منظمًا أو عفويًا.
أما التاريخ فهو يشير إلى الأحداث الماضية في حد ذاتها، كما كانت في الماضي سواء تعرفنا على هذه الأحداث أو لم نتعرف عليها.
ويمكن أن يتضح لنا الفرق بين التأريخ والتاريخ بتمثيلهما بالخارطة والموقع على الترتيب؛ حيث إنه وعلى الرغم من عدم مقدرتنا على إدراك التاريخ إلا بالاستناد للتأريخ إلا أن التاريخ يبقى أوسع من التأريخ؛ حيث إن الأحداث التاريخية التي لم تشملها عملية التأريخ أكبـر بكثيـر من تلك الأحداث التي أُرِّخت ووصلت إلينا؛ إضافة إلى كون أن الحقيقة التاريخية تتلخص في معرفة الحدث كما كان في الواقع الماضي؛ وبما أنه حدثٌ تاريخي فلا بد وأن يكون قد وقع فعلا ومن ثم لا يوجد إمكانية لإطلاق حكم على التاريخ بأنه صحيح أو خاطئ وهذا يختلف عن تقييمنا للحدث من حيث مقبوليته المنطقية والأخلاقية تبعًا للمعايير الاجتماعية أو الفنية؛ أما في التأريخ فهناك مجال واسع للقول بالصحة أو الخطأ، وذلك لإمكانية تعدد عمليات التأريخ لنفس الحدث التاريخي؛ ولارتباطها بشخص المؤرخ وظروف التأريخ.
وبهذا صارت كلمة التاريخ تدل على سلسلة الحوادث والوقائع الماضية التي قدّر أنها وقعت للإنسان ضمن حيز تقاطع فيه الزمان مع المكان.
هذا ويخطئ كثير من الباحثين والمفكرين أيضًا عندما يقعون في الاشتباه بين مفهومي (التاريخ) و(علم التاريخ) حيث نجد مثلا أن (كمال حيدر؛ 1995) في كتابة (منهج البحث الأثري والتاريخي) يُعرف التاريخ بأنه «فرع من فروع المعارف البشرية؛ قوامه التحري عن حياة المجتمعات في الماضي والتي يصل إليها الباحث التاريخي وفق منهج خاص» وكذا نجد أن (قاسم عبده؛ 2000) في كتابه (تطور منهج البحث في الدراسات التاريخية) يصف التاريخ بأنه «دراسة المسيرة الحضارية لبنى الإنسان أو الماضي الإنساني في نظام أكاديمي من أجل الكشف عن غموض هذا الماضي لتحقيق المعرفة بالذات الإنسانية».
أبيستيمولوجيًا يختلف علم التاريخ عن التاريخ في حد ذاته؛ باعتبار أن التاريخ هو الموضوع العام لعلم التاريخ؛ في حين أن هذا الأخيـر يشير إلى تلك الدراسة المنظمة للمواد التاريخية الحاملة لحيثيات الوقائع المستهدفة بالتفسير ، وذلك من أجل الوصول إلى الروابط الظاهرة والخفية التي شكلتها عبر الزمان والمكان.
وبهذا فـعلم التاريخ يتميـز باعتماده على المنهج العلمـي في التعامل مع القضايا التاريخية؛ كما أن هذا العلم قد امتد مؤخرًا ليشمل عملية التأريخ في حد ذاتها؛ والتي كانت سابقًا تمارس بشكل عفوي أو من طرف قطاعات غيـر أكاديمية؛ حيث طوّر المختصون في علم التاريخ مزيدًا من الأدوات العلمية التي يمكن أن تستخدم في عملية التأريخ فضلا عن تصدي بعض المؤرخين لعملية التأريخ بشكل مباشر.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
12:00 21 أكتوبر, 2017
من العز بن عبد السلام إلى الصادق الغرياني.. أمّا بعد
من عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسنِ إلى الصّادق بن عبد الرحمن بن علي الغرياني، فإنِّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أمَّا بَعْدُ:
فإنه في ليلةٍ من ليالي دمشق الباردة، كنتُ فِي شبابي نائمًا مع بعض الطلاب في زاوية من زوايا الجامع الأمَوي، فاحتلمتُ في ليلتي تلك، فاستيقظتُ قبيلَ الفجر فلم أجد ماءً أغتسلُ به؛ إلا بركة في طرف المسجد شديدةَ البرودة، فخلعتُ ثيابي وأنا أرتجفُ من البرد، وغَالبتُ نفسي فألقيتُها في تلك البركة واغتسلتُ بالماء البارد، ثم خرجت أشهقُ من شدّة البرد، فأُغمِىَ عليّ، ثم استيقظت وجلست حتى طلع الفجر فأَغفيت إغفاءةً بسيطة، سمعتُ فيها صوتًا يقول: يا ابن عبد السلام أتريد العلم أم العمل؟ فقلتُ أريد العلمَ لأنه يهدي إلى العمل، فأصبح بي بكرم الله وفضلهِ ما تعلم.
أخـــي الصادق اسمًا وفعلًا..
قد علمتُ أنّك أفتيتَ بعدم جواز الذبح قبل الوقوف بعرفة سنة 2009 يوم أن أمر ذلك الحاكم المستبد الظالم «القذافي»، بذبح الأضاحي قبل ذلك بيوم، ولقد أُعجبت وذُهلت عندما أضيف لي أنّك فعلت هذا في القنوات الفضائية التّابعة للقذافي، ولم تخشَ في ذلك إلا الله.
أخـــي الحبيب..
لقد عشتُ في الشام فترةً من حياتي، وعايشت تفتت دولة الإسلام إلى دول يتنافس أمراؤها على الملك، وأصبح بعضهم يقاتل بعضًا ويتحالف مع الصليبيين ليتفرغ لقتال إخوانه وبني عمّه، ولما كُنتُ في دمشق تحالفَ ملكها مع الصليبيين وسلّم لهم بعض حصون الشام وقلاعها، وكنتُ قاضيًا ومفتيًا، فصعدتُ المنبر وأنكرت على الملك وختمتُ الخطبة بقولي: «اللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا تُعِزُّ فيه وليَّك، وتُذِلُّ فيه عدوَّك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر».
حتى إذا أتاني نبأُ مُـكالمتك مع قناة (الجزيرة) في 20 فبراير من عام 2011 ومن وسط طرابُلس، وبفتواك التي أفتيتَها في تِلك المُداخلة بوجُوب نصرة أهل بنغازي والذين استفحل فيهم القتل لأنّهم خرجوا في مظاهراتٍ ضد «القذافي»، فامتلأ قلبي فخرًا بك خاصة لمّا سمعتُ قولك في تلك المكالمة: «إنَّ ما يحدثُ في ليبيا شيءٌ لا يطاق، ولا يجبُ السُّكوتُ عليه، آلةٌ حربيّةٌ ثقيلةٌ تواجه مدنيين صُدورهم عارية»، ثم خطابك للعسكر من أتباع القذافي بالتذكير والتحذير، ثم نطقت بها صريحة مدوّية فزاد فخري بك أضعافًا مضاعفة لمّا قلت: «واجبٌ على كل مواطن غيور في هذا البلدِ وعلى أهل طرابلس وكل المدن الليبية أن يقفوا وقفةً واحدةً حتى يتوقف هذا الظلم على أهل بنغازي»، وسمعتُك وأنت تقول: «فرضُ عينٍ على كل مسلم أن يقومَ بكلِّ ما يقدرُ عليه لإيقاف هذه الدماء، فرضُ عينٍ على كل الليبيين أن يخرجوا ليوقفُوا هذه الدماء».
أخـــي الشيخ..
لقد قرأتَ أنت عن موقفي لما اجتاحَ التتار بغداد وتقدّموا نحو مصر، وأنّ القلوب بلغتِ الحناجر، فأسرعتُ إلى سلطان مصر واجتمعتُ بعساكرها وخطبت فيهم قائلا: «اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر»، ثم كانت أزمة المال القليل الذي لا يكفي لمواجهة العدو، فقلتُ للسلطان: إذا أحضرت ما عندك وعند حريمِك وأحضر الأمراء ما عندَهم من الحُلي وفرَّقته في الجيش ولم يقُم بكفايتهم فعند ذلك نطلب القرض من التجار، وأما قبل ذلك فلا، فأحضر السلطان والعسكر ما عندهم بين يدي وامتثلوا أمري فانتصرنا بفضل الله.
ولقد سَمعتُ أنا عنك بدوري ما فعلتَهُ عندمَا أراد المُجرم خليفة حفتر الانقلاب على الدولة، ووقفتك التي سيخلّدها التّاريخ، وتوجيهاتك التي تنبع من قلبِ عَالمٍ عَلَمٍ مُحب لبلاده، ثم وقوفك في وجه عصابات الحرابة التي تقطع الطرق، وفتاواك بخصوصهم، ففتواك في حق من يقفل صمّامات النفط، وكلامُك في حقّ عصابات سرقة المال العام من المسؤولين، فما وُفِّقْتُ لكلمة تُوفيك حقك من المدح.
أخـــي مفتي عام ليبيا..
لقد قدتُ أهلي لصد الفرنجة الصليبين، وقدت أنت أهلك لخلع محرف كلام رب العالمين، ولقد والله عاصرتُ عددًا من الملوك والسلاطين فحافظت على النصح لله ولرسوله ولعامة المسلمين، وكذلك فعلت أنت.
ولقد كان معي في خروجي من القاهرة طلاب العلم وتلاميذه والعلماء والصُّلحاء والتجار والصناع، وكذلك من هم معك اليوم، وسيلحق بك الباقون، إن شاء الله تعالى.
أخـــي وخليليَ الذي لم أره..
أحمد الله أنك أنتَ أنتَ على الحال الذي نعرف، فمثلك والله رجل بأمة، فذكّر الأمة بأمجادها لتستعيد سيرتها الأولى، وإذا تنكرت البشرية لمواقفنا ومواقفكم، فمن يلوم الحاسد المبغض أو الجاهل المنكر، لكن من يعذر مسلمًا بجهله لمثل هذا التاريخ العريق والنضال الرفيع.
ذكّرهم بقول الشاعر الذي يندبُ حظّ المسلمين على نسيان الأمجاد والجذور، لعلّ الذكرى تنفعُهم:
بالله سَلْ خَلْفَ بَحْرِ الرُّومِ عَنْ عَرَبٍ بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا
استَرْشَـدَ الغَرْبُ بالماضي فَأَرْشَدَهُ ونحـن كانَ لنـا ماضٍ نسينـاه
أخـــي الصادق الغرياني..
سمعتُ أنه في عصركم حُكم علىَّ بالبدعة والخروج عن منهج السلف الصالح، وأنا الذي كان العلماء على مر العصور يشهدون لي بالعلم ومحاربة البدعة، وأعلمُ أن الراسخين في العلم في عصركم، شهدوا لك بأنّك جمعتَ بين فنون العلم من الحديث، والفقه، والأصول، والعربية، وأعلمُ أنّ كتبكَ تدرّس لطلبة العلم في سائر البلاد، وأعلمُ أنك العالم الذي سيخلّف من بعده العلمَ والمواقِفَ الخالدة في قوْل الحقّ، فما بال القوم يحكمون عليك بمثل ما حكموا عليّ به (البدعة والخروج عن منهج السلف)؟
هل غرّهم منك أنك أقوى منهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنك أغزر منهم علمًا وورعًا، وأنّك خيرهُم قيامًا في الحقّ وشجاعة وقوة جَنانٍ وفصاحةَ لسان؟
أخـــي يا ابن عبدالرحمن..
أنتُم اليوم تمرُّون بمثلِ ما كان يمر به المسلمونَ في عصرنا، دويلاتٌ وإماراتٌ ممزّقة، وعصرٌ الأمة أغْنَى ما تكون فيه عن طالبِ علمٍ يزيدُ في التمزيق، عصرٌ يقتنع فيه الشابُّ بالقليل ثم لا يكلّفه «العلم» أكثر من كُتيبات وأشرطة، ولا يعرفُ من المنكرات والبدع التي يستشرف لمحاربَتها إلا بعضَ مسائل الخلاف التي مرّت قرونٌ على اختلاف المسلمين فيها من غير إنكار، عصرٌ الأمة في أشد الحاجة فيه إلى الانتفاع بشبابها الذي تعطل الانتفاع بهم لما اجتروا ثقافة معاصرة سطحية تنتقل به في يوم وليلة إلى مقام يستأثر لنفسه الفوزَ بالفرقة الناجية، ثم يستنكف ويشمئز من السماع لك ولغيرك من العلماء الراسخين، ثم يتطور موقفه فينعطف على الأكابر والمتقدمين والمتأخرين بالتبديع والتحذير.
ولقد سمعتُ أن قرابة قرنٍ من الزّمان مرّ على تأسيسِ منهجٍ أرادوا فيه أن يُحاربوا البدع وأن يوحدوا صُفوف الأمة؛ فانتهى هذا التوحيد والجمع إلى تبديعيَ (العز ابن عبد السلام) وتلاميذي!!
أخـــي أيها الجبل الأشم..
ناشدتُك الله أن تثْبتُ على ما أنت عليه، وأن تَعمل مع العُلماء الرّاسخين في ليبيا على تحريرِ العُقول لتميّز الخبيثَ من الطيب والغثّ من السَّمين.
ثم اعْلمْ رحمَك الله أنّك قامةٌ وقيمَةٌ صنعتْ وتصنع فارقًا حقيقيًا لبلدِك وأهلك
فخُذْها مِني صَريحة بِلا مِراء، أنتَ سُلْطَانُ العُلَمَاء.
11:00 21 أكتوبر, 2017
أردوغان.. الأرطغرل القادم من تركيا
كنت أحب صدام حسين وبشاشته، وكنت أحب عروبته، لأنه كان عربيًا قبل أن يكون جائرًا أو سلطانًا، لكن الزمان وتقلباته خيبت أملي وقصفت عليّ براميل اليأس، وكنت شغوفًا بقذافي ودولته الأبية ووحدتها وعزتها المتحدية، وكنت متابعا لأي حركة تنفجر من إحساس المجد وأحن إلى عالم يرفع فيه الإسلام راية المجد والشرف.
تركيا الجديدة، التي تشع قبسات الأمل وتبعث من تاريخها الأبي بحلته المتنورة، لقد حدق أطرافي ذلك الرجل العملاق، رجب طيب أردوغان، الذي يعرفه الطفل والرجل، ويصفه الشعر والنثر، وتحدو إليه أرواح المجد حتى لا تضمحل حكومته ولا ترتحل قبضته، مع أني أصفه عنقاء نهض من ركام الانقلاب وصقرا تحلق فوق سماء الدين الإسلامي، وقد أخذت الكثير هالته الإسلامية ونبضته للأخوة والوفاء والعالم الإسلامي، فإن تركيا التي تقتنصها معالم البطولات لا بد من إعادة هذا التراث التليد وبناء دولة من جديد، لأن في تربتها رياح تلقح آثار الإسلام والخلافة، الخلافة التي سلطت على العالم الإسلامي لأكثر من ثلاثة قرون، الخلافة التي وحدت كلمة الأمة لولا انشقاقات وتحزبيات، لكنها كانت آخر مغارة تأوي إليها أفئدة الأمة جمعاء، وقد عمت في كوكب الأرض، ومدت جسرًا متينًا بين القارات الثلاث، من آسيا وأفريقيا وأوروبا، وفعلت كسفير أمين مع أنها بعدت من دار الإسلام أميالا وترامت من قلبها أشواطا، لكنها ثبتت ثبت الجبال الراسيات أمام كل من المشكلات والعراقيل التي انجرفت من كنائس أوروبا وانهمرت من سهول آسيا وصحارى أفريقيا، بل كانت لها أن تصدى الصراعات الداخلية التي أثرت جرحًا واسع العمق والألم.
لمحات من تركيا القديمة
من الخلافة العثمانية، ومن بلاطها وسلاطينها امتصت تركيا دماء الفخر وقوة الإرادة، وتألقت من بين الأمم والشعوب بهذه الملكة والمملكة القوية العارمة، رجال شدوا حزامهم لحماية الأدب والعلوم وبناء الحضارة والثقافة ونصرة المظلوم، عضلاتهم فتية وإرادتهم قوية، وما زالوا كذلك وقد اتسعت أسوار دولتهم بين القارات، وذلت لهم أسوار تستر وبلاط القسطنيطينية، بل خاضت إلى مجر، وبلقان، وصربيا، وبلغاريا، وأدرنة، وهذه الحروب التي مهدت الطرق لهم في أوروبا أودت بحياتها وأمنها الداخلي، لأنها حرضت وهيجت مشاعر النصرانية فتجمعوا وفعلوا معها فعل الثعلب المكار، وهكذا بدأت شعلة الحرب تستشيط وتستطير.
ففي تاريخ تركيا مسلسلات من البطولات، التي تبرر استماتتها والمخاطرة بنفسها لأجل الوطن والمجد، فإنه لما أصيب السلطان المراد العثماني في الحرب مع كوسوفا لم تنزلق الجنود ولم تذهب أنفسها هلعًا، بل تقدموا حتى رفعوا راية الانتصار، فإن هذا المشهد العظيم لا يرى إلا في تاريخ العثمانية وإلا في رجال تركيا العظيمة، قوادهم مثل خير الدين بربروس، كانوا أيضا يمثلون غاية الشجاعة والبسالة، ويقضون على التمرد والخروج على الدولة.
ولم يزل هذا الإعصار العثماني يزعزع عروش فرنسا وبريطانيا وإسبانيا والمغرب وتونس، وفيينا، حتى تم فتح صوماليا على يد سليمان، وكان هذا الفتح أكبر ضربة على وجه أوروبا وكبريائها، ويقول التاريخ: بأنه كان هنالك مليون مسلم تحت سطوة هذا الخليفة، سليمان القانوني.
وأما العثمانية وإسهاماتها في تنشيط نسائج الدعوة الإسلامية مشهورة وجدرية بالقراءة، ويقال عنهم كما حكى فارس المنابر عبد الحميد كشك «إنهم كانوا لو دخلوا المسجد ورأوا فيها المصاحف لم ينصرفوا منها مولين أدبارهم بل انصرفوا ووجوهم مقبلة نحو كلام الله»، وقد كانت سماتهم عالية الأهداف وعلى أساس من الأخوة، ومن دعوتهم انسلت أشعة الإسلام إلى حنادس أوروبا المتربعة حول المغريات والملذات الدنيوية، وأرسوا دعاة وعلماء لتعليم مبادئ الدين وقراءة القرآن، وبنوا مدارس على أساس السنة والتقاليد الإسلامية الساذجة، بل كانت الخلافة رائدة الفنون والعمارات، فمن أجلها نحقق ونقول: «أن للآثار أفكار».
وكانت النتيجة فوق ما توقعوا، لأن شعوب أوروبا كانت تتعرض لتشريدات وتهميشات من قبل الملوك الجبابرة، وكانت تحن إلى سلوة وإلى خلاص من هذه الحياة المكبلة، فأصبحت أوروبا تتعرف وتنهال على الإسلام، وكانت بداية ثورة هادئة انطلقت من الإسلام، فتركيا القديمة هي منسوجة بالإيمان والإخلاص، وهي عبارة عن شعب تحدى الجبال الصم والرجال المكرة، وهي لا تزال لامعة ومنشورة في التاريخ حتى عجزت التجديدات الزائفة التي ظهرت في العشرينيات لطمس معالم الخلافة المثالية.
إرهاصات تركيا الجديدة
تركيا، ما زالت حبكة الدهر وبطل التاريخ، ولم تزل وديانها زاخرة بالفتوحات والمعارك القدسية، لكنها غابت من جدران التاريخ عندما نفخ أتاترك كير العلمنة وإساءة الإسلام، وقد كان رجلا ذا وجهين، يشج بأيد ويأسو بأخرى، ولم يدرك الشعب هذا الماكر والمقامر إلا بعدما سمّرت جنازة الخلافة وصلبت تحت سمعهم وأبصارهم، هكذا انتهت الخلافة بكل الشين والوقاحة، بكل المذلة والهوان للعالم الإسلامي، لأن الخلافة مهما تفكك أمرها أو تشتت شملها كانت مصفا واحدا ومنبرا للأمة الإسلامية جمعاء.
تركيا فعلت فعل أشقائها من أندلس وقبرص وغرناطة، ورافقت معها في تشييع جنازة الأمة، ولم يندمل جرحها حتى الآن ولو من بعد تسعين عامًا على تلك الكارثة والمدلهمة، ولم تتحرر الأمة من ذكرياتها الأليمة بل ظلت بجدة المراثي وثرثرة الشعراء.
فإن تركيا لها ماض باسم وتاريخ تليد، بل فيها دروس وعبر للأمة، وهي تعلمها أسس النجاة والخلاص، لكن لو عادت تركيا إلى ذاتها واستنشقت من مجلداتها عطر العز والشموخ للاح في أفق الإسلام نجم يحيي الكون باسم السلام.
فإن من أكثر الأمور عجبًا أن نشهد صحوة إسلامية في بلد يلتزم بالعلمانية الشديدة، فإن تركيا وعلمانيتها تحاربان أوربا وسياستها، فإن سقوط الخلافة سنة 1924 كان حادثًا مروعًا كارثيًا، ترثي له قلوب المسلمين، فإن الكارثة كانت شمولية، حيث دمرت رموز الخلافة بل قضت على من ينادي بقضايا المسلمين ورفع عرائضهم إلى المنظر العام، لكن تركيا لم تركع أمام تقلبات شكلتها استبدادات أتاترك لتكريس العلمانية ومن حف حوله من الشباب الأتراك.
وكان الإسلام يرتصد كل حركة ويراقبها، حتى أطلق أول رصاصة من زناد سعيد بيران، لكنه كان وسط عيون حاقدة، ولم يمض على قيد الحياة بعيدا وتم إعدامه، ثم كانت نوبة عدنان مندريسي، وفعل ما فعل، وأعاد اللغة العربية إلى المآذن وضمن الدروس الدينية في المناهج، ولكن القضاء اختطفه وغيبه في أسلاك الجيش التركي الهلع، لأن شعلة الإيمان لو بدأت في قلوب أصالتها الإسلام والعشق مع الله لا تتوقف إلا بعد أتت على الأخضر واليابس وأعادت من تراثها سلالم الغد المناهض، ثم كانت نوبة نجم الدين أربكان وحزب السلامة، وكان ينادي «النظام العادل»، ويبرز جوفية العلمانية المتشددة، وكانت له حدة فكرة حتى لم تظهر بوجه إسلامي بل خاض المعركة باسم الإصلاح والتنمية والعدالة.
أرطغرل من جديد
وبعد تأسيس «حزب السلامة» التقى أربكان مع رجب طيب أردوغان وكان طالبًا في كلية الاقتصاد والسياسة بمرمرة، وأعجبت به هذه الحركة إعجابًا شديدًا واعتزم للمسير على درب أستاذه الموقر أربكان، ولكن عين المراقبة كانت تحوم على حزب السلامة، وسعوا في إلغاء هويتها وشرعيتها، حتى أعاد أربكان تشكيل حزب باسم «حزب الرفاه» سنة 1980، وهنا تنعطف القضية وتتجه نحو أخرى، حيث لمع أردغان نجمًا ساطعًا وأصبح رئيسًا لفرع الحزب في إسطنبول سنة 1985 ولم يبلغ من العمر إلا 31 فقط، وهذا الرجل الذي باع البطيخ في شوارع تركيا لم يلبث حتى تولى مقاليد الرئاسة ببلدية إسطنبول، وحقق مفاجأة كبيرة بهذا الفوز.
والمفاجأة الكبرى كانت صعود إسلامي إلى رئاسة إسطنبول، بل هو إقبال إصلاحي ولم ييأس شعب تركيا تحت ظل هذا «الأرطغرل الجديد»، إنجازات هائلة لم تخطر ببالهم منذ زمان، لأنها كانت تشكو انقلابات عسكرية متواصلة، لم تخمد نارها إلا أطارت أخرى عن قريب، فظلت تسمع نداءات من أصل التنمية والعدالة، واحتشدت وراء هالة أردغان القائد، وأسس حزبًا جديدًا باسم «حزب العدالة والتنمية» وانطلقت بمبادرات بناءة أدت إلى تغيير مجرى تركيا العلمانية، ونالت قبولًا واسعًا في أوساطها، وشاركت فيها رجالًا ونساء وشبابًا، وأثارت هذه الشعبية الجارفة قلقًا وضغوطًا في خلايا العلمانية، وفرشوا أشواكًا لإضناء حركتها وردع كتائبها لكنها نسفت آمالهم بفوز يسحق جميع العداة والمكرة، ولم يزل هذا الرجل يحقق المستحيل حتى سمعنا أصداءه في ليلة الانقلاب العسكري الفاشل، المحاولة المدبرة التي حاكتها «حماة تركيا» والتي باءت بالفشل الذريع.
أحبه لأجل كلمته الصادقة وإن سماها الأعدء «كلمة معسولة اصطناعية» لكن لها صدى واسعًا في عالم يصمت فيه الجبناء.
نعم، إنه الصوت الحر للعالم الصامت، الذي يستمد قوته من الشعب، وبصيص الأمل للملايين، إنه رفيق الغرباء، عاشت تركيا إلى جديد، وعاشت وعاشت، وكل التوفيق للأرطغرل القادم بإذن الله.
المصادر
10:00 21 أكتوبر, 2017
الإنسانية تحت رحمة السّائد
مع حلول عصر الأنوار الذي حلّ بالبشرية قبل قرون من الزّمان، نظّر أعلامه لفكرة جوهرية مفادها أن: الإنسانية مجموع متضامن ومتماسك على خلفية أنّ الإنسان أخ للإنسان على هذه البسيطة أو الكوكب الصغير.
ومع توالي القرون، أصبح لائحًا أنّ مبادئ الأنوار لا تغدو إلا أن تكون حبرًا على ورق وأفكارًا مثالية وجدت البشريّة نفسها عاجزة عن تحقيقها، رغم توافر كلّ الظروف المناسبة لذلك. إلّا أن الإنسان يأبى في كلّ مرّة إلّا أن يُغلّب جانبه الوحشي على الغايات والأهداف السّامية التّي يخطّها عقلاؤه. حتى أصبحنا في عالم اليوم نعيش لنتساءل.
أين ذهب البشر؟ أين يختبئون في حين يتصدّر الإنسان اللاإنساني الجزء الأمامي من خشبة المسرح؟ والمشهد بالطبع هو من صنيع الإعلام، والشبكات الاجتماعية، ومنتديات المناقشة، حيث يكثر العدوان والمضايقات اللّفظية التي يتلقّاها الإنسان دون ذنب اجترحه، فقط لأنّه أبدى رأيه المختلف (الإنساني). أيضا يجب ألّا ننسى مجال الحياة اليومية، حيث يسود عدم الاحترام، والشتائم، والوحشية، والتهديدات والعنف وغيرها من أعراض الانحدار الإنساني والأخلاقي.
فمن صور ما نعيشه اليوم في عصر إنساني يفتقد معاني الإنسانية هو أن من يتصدّر مراكب الشعوب والأمم في عصرنا، عصر الليبرالية الجديدة في مرحلتها المعولمة لم ينشغلوا بالمثاليات أو بما يجب أن يكون المجتمع والإنسان عليه ثقافة، وقيمًا، وأخلاقًا. بل اهتمّوا بما يحقّق المغانم المالية والمادية في اقتصاد ليس فيه شيء من أهداف الإنسانية، وقد سبق أن أشار الكثير من المفكرين إلى خطورة المرحلة الحالية من تاريخ الحياة البشرية. حيث أصبحنا لا نعير أدنى اهتمام للمجتمعي، والثقافي والإنساني. وميلنا نحو ثقافة عدوانية اتجاه المختلف وإقصائية اتجاه الأصوات الإنسانية فينا.
لا يمكن لعاقل مستبصر بأزمة العالم المعاصر، وما يصادف فيه الإنسان من مظاهر للعنف والإقصاء والعنصريّة الدّينية كما العرقيّة أن ينكر أنّ البشرية في ورطة حقيقية لا خلاص منها إلا بتحرير العالم من براثن الظلم والإرهاب والاستبداد الذي استشرى وأصبح سائدًا في كل الأوساط المجتمعية مهما بلغت من الرّقي والتمدّن ومهما انحدرت وهوت في بوتقة الجهل والتخلف والعنف.
هذه الظاهرة المرّة لا تقتصر على صقع واحد من أصقاع العالم، بل تعمّ وتسود أنّى حلّ الإنسان وارتحل. فمن الجليّ أنّ إنسان العصر أصبح مسلوب الإرادة، مسلوب الكرامة، مسلوب الحرية. رغم أنّ الفلسفة التي قامت عليها مجتمعاته (الحديثة) ترتكز على هذه الرّكائز الثلاث وتصنّفها كغايات للإجتماع البشري. فأين الخلل؟ مادام الإطار النّظري يتغيّى تحقيق المسلوب. ونشر ثقافة الحريّة والكرامة والإرادة الحرّة، وتحرير الإنسان من وحشيته وجشعه وأساليب حياته العتيقة، هذا إضافة إلى تحضيره وتمدينه وأنسنته.
من بين الحقائق الصّارخة، أنّ عالم القرن الحادي والعشرين لم يشذّ في طبيعته عن باقي الأزمان الغابرة، فهو عالم محكوم بمنطق القوّة والغلبة والبأس الشديد. عالم تتراجع فيه الأخلاق والمبادئ والقيم، لتسود في الوحشية والإجرام والإرهاب. عالم يتراجع فيه أصحاب الكفايات والمهارات والخُلق الحسن، ليسود فيه المجرمون والطّغاة الجبابرة والمجانين. عالم تتقهقر إنسانيته شيئًا فشيئًا، ولا يتقدّم المشهد فيه إلاّ من وضع رحمته جانبًا وتخلّى عنها. فالسّائد اليوم لا يختلف كثيرًا عن سائد الأمس، وإن كان مشيدًّا على دعائم القيم الإنسانية الجليلة.
هذا الواقع البائس تعيشه المجتمعات أيضًا، الدّيمقراطية كما الاستبدادية. ويجعل الحياة شيئًا فشيئًا أصعب على كلّ من اختار أن يسبح عكس التيّار ويندّد بهذه الأنوميا بتعبير دوركايم. فتواجد هذه الأصوات بل وتكاثرها يومًا بعد يوم رغم القيود والأغلال المفروضة عليها من المجتمع الرّافض للعلاج، وبدرجة أولى من كلّ مستفيد من الوضع السّائد يضيء الصّورة القاتمة التي رسمناها في الأسطر الأولى، ويبعث الأمل في أنّ المعدن الإنساني الأصيل لا يزال حيّا وقادرًا على الانبعاث من جديد وسط هذا الكمّ الهائل من العنف والدّمار والإجرام.
الإنسانية اليوم أمام اختبار جديد ومطبّات أصعب من أيّ وقت مضى، فنحن البشر البسطاء نستطيع لو صحّ منّا العزم ولم ننثن ونتثنّ أو ننكسر أو يتثلّم حدّنا، نستطيع تحقيق التّوازن بل والعودة إلى صدارة المشهد، وذلك بتشييد فلسفة جديدة للحياة، تُعلي من شأن الإنسانية والأخلاق والقيم، وتعزز روح الاختلاف والحوار. وترسيخ هذه المرامي لا بدّ أن يُستهلّ من ذواتنا فمجتمعاتنا فالعالمين.
Brak komentarzy:
Prześlij komentarz