niedziela, 11 listopada 2018

وقائمة الأماكن الفلسطينية المسجلة على جدار الكرنك ضمن هذه الحملة، تخلو من اسم القدس، مما يعني أنها من الجزء التالف في هذا الأثر.
ويسجل مؤرخو التاريخ الفرعوني “أن مصر قد عاشت قرنين من الزمان على الغنائم التي حملها شيشنق من فلسطين، ولا أدلَّ على ذلك من العمائر التي أخذ في إقامتها ملوكُ هذه الأسرة (الثانية والعشرين)، مما يدل على بسطة في المال وسعة في الرزق..”. وهذا يعني فقد بني إسرائيل للكثير من الكنوز والثروات التي خلّفها داود وسليمان ( عليهما السلام ) مبكرًا.
وقد كان الهدف من هذه الحملة – كما هي العادة الفرعونية – ضمان ولاء ملوك هذه الجهات لحاكم مصر، ومنع قيام دولة قوية هناك تهدد سلطانهم، وتضع طرق تنقلهم العسكرية والتجارية في دائرة الخطر.

2.    بيت المقدس قبيل الغزوين الآشوري والبابلي

لم يكن هدف شيشنق الأول من حملته على فلسطين (حوالي سنة 920 ق. م) أن يضع يده عليهامباشرة، وإنما أراد فقط أن يضمن ولاءها للتاج الفرعوني، ويقضي على أي قوة يمكن أن تنشئ دولة متحدة فيها؛ ولذلك بقيت سلالة سليمان تحكم هناك زمنا، حتى دمر الآشوريون مملكة إسرائيل عام 722 – 721 ق.م، ودمر البابليون مملكة يهوذا سنة 597 ق.م.
وحسب رواية العهد القديم، فقد مكث رحبعام بن سليمان في حكم مملكة يهوذا (وعاصمتها القدس) سبع عشرة سنة، حيث مات بعد حملة الفرعون شيشنق باثنى عشر عاما، وتتابعت ذريته في حكم المملكة الجنوبية حتى بلغوا تسعة عشر ملكًا، حكم بعضهم شهورًا، وتجاوز حكم بعضهم نصف قرن من الزمان..
وعن أحوال المملكتين اليهوديتين أثناء هذه الفترة – كما ترويها أسفار العهد القديم – يقول بعض الباحثين بحق: “احتوت (الأسفار) كثيرًا من أخبار دولتي إسرائيل ويهوذا وأحوالهما الداخلية والخارجية، وما ارتكست فيه الدولتان وملوكهما من فتن وحروب أهلية وانحرافات دينية وخلقية، وما تعرضتا له من غزوات خارجية. ولم يكد يُسجَّل لهما فيها إلا حقب قصيرة من السيادة التامة أو الانتصار على غيرهما، كما أن ما سجلته من الصلاح والاستقامة أقل بكثير مما سجلته من الانحرافات الدينية والأخلاقية”.
وظهرت في هذه الأثناء دول متحضرة، لكنها ضارية كالوحوش، فيما بين النهرين (دجلة والفرات) في أزمنة متتالية، فدمر الآشوريون أولا عروش دولة إسرائيل التي حالفت السوريين ضدهم، وأوقفوا زحفهم في عهد الملك العبري أخاب بن عمري (حكم من 874 – 852 ق.م)، فتربص الآشوريون بمملكة إسرائيل حتى أسقطها سرجون الثاني بعد وفاة أخاب المذكور بثلاثين عاما.
وكان من الطبيعي أن يحاول ملوك آشور السيطرة على مملكة يهوذا وعاصمتها القدس، أو على الأقل ضمان ولاء ملوكها لهم، وقد تعرضت أورشليم للكثير من المخاطر أثناء هذا الصراع.
ولم يمر وقت طويل حتى دمر البابليون المسجد الأقصى وخربوا مدينة بيت المقدس ودولة يهوذا كلها.
(محمد عزة دروزة: تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم صـ 232، وسليم حسن: مصر القديمة 9/ 526 وغيرها)

3.    المحاولات الآشورية للسيطرة على القدس

حرّض خصوم سنحاريب ملوكَ فلسطين على الثورة على سلطان الآشوريين، وكان ملك “يهودا” حزقيا أقوى هؤلاء الثائرين، فسعى إلى زيادة مناعة عاصمته أورشليم بقوة، وأمّن وصول الماء إليها من مجرى مائي تحت الأرض ليقاوم الحصار، كما سعى إلى توسيع حدود مملكته..
وطَرد الثائرون الأمراءَ الموالين للآشوريين في جنوب فلسطين، حتى تسلّم حزقيا في أورشليم “بادي” – أميرَ “إكرون” الموالي لآشور – مقيَّدا بالسلاسل والأغلال..
كان هذا كلُّه – بغير شك – إهانة بالغة لملك آشور القوي سنحاريب، فزحف من توّه إلى الجزء الغربي من مملكته، وبدأ بـ “صيدا” و”صور” الفينيقيتين، ودخلهما بيسر بالغ. وحاول المصريون إنقاذ حلفائهم، ولكن أيام مجد الفراعنة الذهبي كان قد ذهب، وجاء دور سيادة بلاد الرافدين، وممالكها الفتية، وانتصر الآشوريون..
ولقي سنحاريبُ قادةَ الثورة ضده، وعاقبهم بقسوة بالغة، وفكّ أسر حاكم “إكرون” الموالي له من أورشليم، لكن بقيت أورشليم نفسها تحت الحصار سنة 701 ق.م أبيّة على الغزاة، فعجزوا عن اقتحامها، واكتفوا من يهودا بمدنها الأخرى دون عاصمتها المقدسة.
ومن الأشياء الثمينة التي حُفظت لنا حول حصار آشور لأورشليم متنٌ أثري من أيام الملك الآشوري (سنحاريب) نفسه سجل عليه انتصاراته، ومما قاله فيه: “وفي حملتي الثالثة زحفت على ختي (بلاد خيتا في سوريا)، وقد هرب “لولي” ملك صيدا الذي حرقه سحر سيادتي الذي يبعث الرهبة إلى بعيد.. وقد هزم بهاء سلاح الإله آشور – الذي يبعث فيّ الرهبة – مدنَه القوية: صيدا الكبيرة وصيدا الصغيرة.. وعكا، وكل البلاد ذات الحصون المسوَّرة والحسنة التموين بالطعام والماء لحامياته.. وقد هاجمتُ إكرون، وقتلت الموظفين والأعيان الذين ارتكبوا الجريمة (أي سلّموا ملكهم “بادي” لعدوّه ملك أورشليم)، وعلّقت أجسامهم على عمد محيطة بالمدينة.. وجعلت “بادي” ملكَهم يعود من أورشليم، ووضعته على العرش سيدا عليهم، وفرضت عليه الجزية المستحقة لي بوصفي السيدَ الأعلى.
“أما حزقيا اليهودي، فإنه لم يخضع لنيري، وقد وضعت الحصار على ست وأربعين من مدنه القوية وحصونه المسوَّرة وعلى القرى الصغيرة المجاورة التي لا حصر لها، وفتحتها بوساطة بناء منحدرات من الطين مكينة ومنجنيقات نُصبت بالقرب من الجدران. هذا بالإضافة إلى هجوم المشاة الذين كانوا يستعملون الألغام والنقب والتقويض، وقد سقتُ منها 200150 نسمة صغارًا ومسنين وإناثًا، وكذلك خيلا وبغالا وحميرا وجمالا وماشية صغيرة وكبيرة يخطئها العد، واعتبرتها غنيمة.
“أما هو (أي حزقيا)، فقد جعلتُه سجينا في أورشليم – مقرِّه الملكي – كالطائر في القفص، وقد أحطتها بمتاريس؛ لأجل أن أضايق أولئك الذين يطرقون باب مدينته” ا.هـ.
وأنتجت هذه الحروب خرابا في مملكة “يهودا” بقي أغلب سنوات القرن السابع قبل الميلاد، وتحولت المملكة العبرية إلى تابع يدفع الجزية لملوك آشور.. ومن النقوش الأثرية النادرة التي تسجل هذه السيطرة الآشورية والتبعية العبرية نص يرجع إلى أيام الملك الآشوري آشوربنيبال (669 – 626 ق.م)، سجل فيه أخبار حملة له على سوريا وفلسطين ومصر، ومما جاء فيه: “وسلكتُ أقرب طريق لمصر والنوبة، وفي خلال سيري إلى مصر أَحضر إليّ اثنان وعشرون ملكا من ساحل البحر والجزر والبر، وهم: بعلو ملك صور، منسه ملك يودا (أي ملك يهودا وعاصمتها القدس)، وقاشجبري ملك إدوم… وهم خدَّام تابعون لي – أحضروا عطايا عظيمة لي، وقبلوا قدمي، وقد جعلت هؤلاء الملوك يتبعون جيشي على البر وعلى طريق البحر، ومعهم قواتهم المسلحة وسفنهم..”.
ولكن مع مرور الزمن بَهتت سيطرة الآشوريين، وضعفت قوتهم، وبدأ ملوك أورشليم يحاولون التوسع من جديد، وزحف المصريون في عهد الفرعون نخاو أو نيكاو (الأسرة السادسة والعشرون) على فلسطين، وسيطروا على الشاطئ، وضمنوا ولاء العبريين لهم..
في الوقت ذاته ظهرت في بلاد الرافدين قوة جديدة، أسقطت دولة الآشوريين، ودمرت عاصمتهم الزاهرة “نينوى”، وهذه الدولة القوية هي الدولة البابلية، التي سيكون على يدها التدمير الأول والكبير للقدس. وقد عُثر في سقارة بمصر على رسالة آرامية من ملك إحدى مدن فلسطين، يذكر فيها تقدم البابليين في جنوب فلسطين.

4.    سيطرة مصرية جديدة على القدس

تبادلت الأمم السيطرة على القدس، فحلقةٌ تاريخية مصرية، ثم حلقة آشورية، وكلدانية، وفارسية، ويونانية، ورومانية.. قد تطول بعض هذه الحلقات وقد تقصر، ولكنها دائما في تغير وتبدُّل، وقد تستعيد دولة قوتها بعد أن تبهت وتضعف، ولكنها أبدا لا تنفرد على الدوام بمقعد السيطرة والغلبة..
وقد كان نصيب الفراعنة المصريين في السيطرة والقوة طويلا، وإن تخللت مراحلَ القوة عندهم أزمنةٌ للضعف، وعاشت القدس موالية لهم زمنا طويلا، فكانوا من أطول الأمم في التاريخ سيطرة على القدس وفلسطين، وإن كانت هذه السيطرة في أحيان كثيرة على شكل موالاة وتبعية من ملوك فلسطين لفراعنة مصر..
وكانت مصر قد صارت تابعة أحيانا وحليفةً في الغالب للآشوريين بعد حملات آشورية متتالية على مصر في القرن السابع قبل الميلاد، ولا ينفي هذا أن المصريين ما كانوا ليفوّتوا الفرصة – إن سنحت لهم – بالسيطرة على فلسطين، ولذلك حين فشلوا في مساعدة الآشوريين ضد أعدائهم من البابليين والميديين، وتعرض الآشوريون عند “حران” لهزيمة هي من نوع الكارثة سنة 609 ق.م – حينها زحف “نيكاو” ملك مصر (في أوائل عام 608 ق.م) بجيشه نحو آسيا محاذيا الشاطئ، فخاف “يوشيا” – ملك أورشليم العبري – من سيطرة قوة كبرى جديدة عليه، خاصة أنه كان حديث عهد بالخلاص من نير الآشوريين، فزحف يوشيا بجيشه، وكله ثقة في النصر، حتى لاقى جيش نيكاو عند “مجدّو”..
وبذلك يكون ملك أورشليم هو الذي تعرض للجيش المصري الزاحف بمحاذاة الشاطئ، ولم يقصد غزو الداخل، لكن الهاجس المقلق من فقد الاستقلال، حرك يوشيا إلى هذه المعركة غير المتكافئة، فهُزم هزيمة قاصمة، فتمزق جيشه، ومات هو في جراحه..
وقد تحدث سفر أخبار الأيام الثاني عن يوشيا هذا، وأظهره على أنه أمير مندفع، لا يحسن تقدير خطواته، وأنه لم يطع كلام نيكاو الذي أفهمه أنه لم يخرج لحربه، وأصر على القتال. يقول السفر عن يوشيا: “لم يسمع لكلام نيكاو من فم الله بل جاء ليحارب في بقعة مجدو. وأصاب الرماة الملك يوشيا..” (35: 24).
ونتج عن هذه الحملة سيطرة مصر على سوريا وفلسطين، وبذلك خضعت القدس للمصريين من جديد، ولكنْ لفترة قصيرة.

5.    نبوخذ نصر في القدس

قاد نبوخذ نصر (أو بختنصر) جيوش أبيه سنة 612 ق.م، حتى محا بهم دولة الآشوريين، كما هزم فرعون مصر “نخاو” (نيكاو) بعد ذلك بسبع سنوات فقط في معركة “قرقميش”، وصارت بابل القوة الأولى في المنطقة بلا منازع..
وكانت المشكلة في هذا الزمن بالنسبة للقوى الصغيرة (مثل قوة يهودا في القدس) هي أنه لابد لها من الانضمام إلى قوة كبيرة، تعلن ولاءها لها، وتصون لها مصالحها القريبة، وقد تتعرض القوة الصغيرة لمخاطر شديدة إذا هُزمت حليفتها الكبيرة..
لقد نتج عن هزيمة المصريين أمام الكلدانيين (البابليين) أن انفردت القوة الأخيرة بالسيطرة على غرب آسيا، وكان من جولاتها الحربية أنها سيطرت على القدس بالقوة سنة 597 ق.م، وذلك أن “نبوخادنزر” بلغته وفاة أبيه وهو بالشام، فعاد إلى بلاده ليتسلَّم المُلك، ويُقِرَّ الأمور في عاصمته، فاستغل فرعون مصر “نخاو” (نيكاو) الفرصة، وقوّى جيوشه، وحرّض ملوك فلسطين وما حولها على الانتفاض ضد قوات “نبوخادنزر”، واستجاب له ملوكٌ منهم “يواقيم بن يوشيا” ملك أورشليم، فلملم “نبوخادنزر” قوته، ونظم بيت المملكة من الداخل، واقتحم على المنتفضين قصورهم، حتى دخل القدس بالقوة، وفرض الجزية على ملكها..
ثم عاد “نخاو” إلى تحريض يواقيم على الثورة من جديد، فاستجاب له أيضا، وهنا كانت نهاية مُلك يواقيم، الذي صارت طريقة هلاكه مجهولة، وإن كان سفر أخبار الأيام الثاني يقول عنه: “كان يهوياقيم ابنَ خمس وعشرين سنة حين مَلَك، وملك إحدى عشرة سنةً في أورشليم وعمل الشر في عيني الرب إلهِه. عليه صعد نبوخذناصّر ملك بابلَ وقيّده بسلاسل نحاس ليذهب به إلى بابل” (36: 5 – 6).
وقد حاول “نبوخادنزر” أن يقيم من بني إسرائيل سلطة موالية له، على الطريقة التي ألِفَتْها ممالك فلسطين وسوريا غالبا في صلتها بالآخرين، فنصّب زِدْقِيّا (تسمّيه الأسفار صدقيا) ملكا على أورشليم ويهودا، وبقي زدقيا على ولائه للغزاة الجدد أعواما، حتى حرّضه قواده، واستنجد هو بملوك مصر، وفعل مثل ذلك ملك “صُور” الفينيقية “اتبعل الثالث”..
لم يكن غريبا مع هذه التطورات أن يكون رد فعل “نبوخادنزر” عنيفا، لكنه بلغ مدى بعيدا جدا في عنفه، فزحف في جيش كبير ليُخضع الثائرين ضده، ويخرِّب أوطانهم تخريبا، وحاصر القدس، وفيها بقية ميراث داود وسليمان ( عليهما السلام ) وخاصة مسجد بيت المقدس.. وضُيِّق الخناق على المدينة المقدسة، لكن الحصار رُفع فجأة، فقد جاءت حملة مصرية معادية لـ “نبوخادنزر” وجيوشه، رفع البابليون الحصار عن القدس لمجابهتها..
ولما لم تفعل الحملة شيئا عاد الحصار وضُرب على القدس من جديد، وطال أمده، حتى نَفِدَ زاد أهلها، وانهدمت الأسوار سنة 586 ق.م، وحاول الملك اليهودي “زدقيا” أن يفعل شيئا، لكن النبي إرميا ـ كما يصوره العهد القديم ـ كان ينصح بالاستسلام، وأن لا فائدة من القتال! لذلك حاول زدقيا الفرار ببعض خاصته، لكن جنود “نبوخادنزر” أدركوهم، وكان مصيرهم كالحا..
وكان مصير المدينة البائسة أشد كلاحة، فقد دُمِّرت كلها، وأُزيل مسجدها تماما، ونُهب ما حوته من الثروة والكنوز، وصحب ذلك تشتيتُ بني إسرائيل ونفيُهم إلى بابل..
وعلى ألواحه الأثرية سجل ” نبوخذ نصر” هذه الذكرى الكالحة قائلا: “بقوة نبوخذ نصّر ومردوك، زحفْتُ بجيشي نحو لبنان، فهزمْتُ الخبثاءَ الذين يقطنون الأعالي والمنخفضات، كما هزمْتُ شعبَ إسرائيل في بلاد يهوذا، وجعلتُ تحصيناتِها كومةً من الأنقاض، مما لم يسبقْ لملك أن فَعَلَه”.
لقد كان هذا حصادا مُرّا لمصائب بني إسرائيل وفسادهم، كما كان علامة فشل منهم في تحمّل أمانة دعوة الناس إلى عبادة الله رب العالمين.

6.    الفرس وحلقة جديدة في تاريخ القدس

منذ القرن السابع قبل الميلاد انتقل ميزان القوة في العالم القديم من مصر إلى دول آسيوية، نشأت في تواريخ متتالية أو متعاصرة، خاصة في بلاد الرافدين، وكانت دولة الفرس الأخمينيين أو الأخمينيسيين (نسبة إلى ملكهم الأول أخامنيس) إحدى هذه القوى الآسيوية الفتية..
ومن أهم مراحل حياة هذه الدولة: قضاء ملكها كورش (سيروس) الثاني على مملكة ميديا (في قلب إيران) سنة 553 ق.م؛ إذ ورث – وأسرته من بعده – عرش دولة واسعة، ولم تبق بعد الميديين قوة دولية تستطيع وقف التوسع الفارسي. ولم تكن قوة بابل ومصر حينها متجهة إلا إلى الأفول..
ومؤرخو التاريخ القديم يقولون عن هذه الفترة: “لا نزاع في أن هذا التغير كان يعني انقلابا ثوريا في الموقف العالمي؛ إذ كانت مملكة ميديا – بما لها من قوة جبارة – تُعَد خطرا خفيا على جيرانها.. وقد كان المنتظر في كل لحظة في هذه الفترة من الزمن أن تقبض مملكة فارس على السيادة العالمية، وتنشر سلطانها على العالم المتمدين”.
وتحالف المصريون وحاكمهم أحمس الثاني (= أمسيس) (570 – 526 ق.م) مع البابليين؛ باعتبارهم خصوما أقل خطرا من الفرس، فعقد أمسيس ما يشبه المعاهدة الدفاعية مع “نبونبد” ملك بابل وبعض القوى الدولية الأخرى، لكن كورش كان ينقضّ على من حوله، حتى دانت له آسيا الصغرى، ودخل بابل سنة 539 ق.م بلا حروب كبيرة، ونتيجة لهذا فشلت سياسة التحالفات المصرية، وتمهّد الطريق أمام كورش الثاني لدخول سوريا وفلسطين، وبذلك دخلت القدس في مرحلة تاريخية جديدة لها..
وأهم ما يميز هذه المرحلة في تاريخ القدس هو سماح كورش للمنفيين من بني إسرائيل بالعودة إليها، إلا أن قلة قليلة منهم هي التي عادت إلى القدس، وأما الأكثرية فكانوا قد كيّفوا حياتهم مع الواقع الجديد، واستقرت أوضاعهم في بلاد ما بين النهرين، وفضّلوا البقاء في المنازل الهادئة التي أقاموها على شواطئ دجلة.
وقد اختار الفرس هذه السياسة الهادئة مع كل الأقوام الذين خضعوا لسلطانهم، حتى إنهم بعد أن هزموا الميديين تركوا جزءا كبيرا من إدارة إقليمهم في أيديهم، وأشركوا معهم بعض الفرس، كما أعطوا ما يشبه الحكم الذاتي للأقاليم التي خضعت لهم. ويرد المؤرخون ذلك إلى حكمة السياسة الفارسية، التي كان أصحابها يَعُدون أنفسهم أغرابا عن هذه الأقاليم، ولن يسهل لهم السيطرة على إمبراطوريتهم الواسعة جدا إلا بهذه الطريقة.
وفي هذه المرحلة التاريخية أيضا أعيد – فيما يُقال – بناء المسجد الأقصى، أو ما يسميه اليهود “هيكل سليمان”، وإن كنا لا ندري إن كان أقيم على هيئة بناء سليمان – عليه السلام – أم على هيئة جديدة تقرّبه من المعابد الوثنية التي انتقلت إلى بني إسرائيل من الشعوب التي اختلطوا بها.
مهما يكن، فإن بعض الروايات تفيد أن البناء قد أعيد في عهد الملك دارا الأول (521 – 486 ق.م).
والأسفار اليهودية تضيف معلومات أخرى عن الوجود الفارسي في القدس، وتبيّن أن السيطرة الفارسية على المنطقة كانت فتحا لليهود، وإحياءً لمجدهم الذاهب؛ إذ بعد أن سمح أباطرة الفرس الأخمينيون بعودة بني إسرائيل، كانوا يولّون منهم أميرا تابعا على بيت المقدس، وسمحوا لهم بجمع التبرعات من الشعب العبري والكهنة، “لبيت إلههم الذي في أورشليم” (عزرا 7: 16)، بل تبرع لهم بعض الملوك الفرس أنفسهم. لكننا لا نعلم تماما مدى صحة هذه المعلومات، ويمكن مطالعتها في سفري عَزْرَا ونَحَمْيَا..
هذا، مع ملاحظة أن أحد المتخصصين في دراسة اللاهوت واللغة العبرية (و. أ. ل. إلمسلي – أحد محرري كتاب “تاريخ العالم”) يقول عن كاتب السفرين الأخيرين: “معلوماته عن الفترة الفارسية الأولى مبتورة مشوشة، بل إنه لا يمكن الاعتماد عليه حتى في روايته للأحداث التي وقعت بعد مائة عام من ذلك الوقت، وهي الفترة التي عاصرها نحميا. ورأيه في استعادة اليهود لمجدهم تسيطر عليه بوجه عام نظرية خاصة تجعل هذا الرأي مضللا أشد التضليل”.
وقد سجل الدارسون تأثير الفرس العميق في الديانة اليهودية، ويُرجعون ذلك إلى التسامح الذي لقيه اليهود من الفرس. ولوحظ أن أنبياء اليهود في أسفار العهد القديم استثنوا الفرس دون بقية السلالات المتسلطة من دخول النار!! كما اعترف اليهود بقرب ديانة الفرس من ديانتهم، مع ما هو معروف في دين الفرس من الثنائية الوثنية بين إله النور (أهورامازدا) وإله الظلام (أهريمان).

7.    القدس في مملكة الإسكندر

هذه الحلقة من تاريخ القدس والعالم استكمال لسيطرة العنصر الآري، الذي مثله الفرس قبل ذلك، ولكن طريقة السيطرة هذه المرة ستكون بشكل آخر يستمر حتى الفتح الإسلامي (القرن السابع الميلادي) مع استثناءات قليلة؛ حيث سيطر الأوروبيون – من الإغريق والرومان كقوتين متفوقتين في العالم – انطلاقا من بلادهم، طوال هذه الفترة..
أما الإغريق، فقد زحف بهم الإسكندر الثالث (الأكبر) حتى كوّن لهم دولة عظيمة، بلغ بها الشرق الأقصى، وضمت آسيا الصغرى ومصر وسوريا وفلسطين وبلاد الرافدين والهند وغيرها..
كانت القدس في هذه الأثناء خاضعة للفرس الأخمينيين، ويتولى إدارتها – فيما يُعتقد – يهود موالون للإمبراطور الفارسي، ففوجئ العالم بخروج فيليب (382 – 336 ق.م) – أمير مقدونيا ووالد الإسكندر – وتوحيده المدن اليونانية وما أحاط بها. ودبّر حينئذ للقاء الفرس، وهي الدولة الأقوى والأكثر نظاما وتحضرا في العالم وقتها، ولكنه اغتيل، ليحل محله ابنه الشهير الإسكندر المقدوني (356 – 323 ق.م)، الذي لم يعش طويلا، ولكنه أثر في تاريخ العالم تأثيرا كبيرا وعميقا، وأهم ما فعله هو إسقاط الدولة الفارسية الأخمينية في عهد ملكها دارا الثالث (380؟ – 330 ق.م)، حيث التقى الفريقان عند نهر إسوس (طرسوس القديمة) سنة 333 ق.م، وشرق نهر دجلة سنة 331 ق.م، وانتصر الإسكندر في المرتين، وانحل مُلك دارا..
وراحت القاعدة التاريخية تسري على فلسطين من جديد، وهي أن القوة الأقوى – في الغالب – هي التي تستولي عليها، وقد فعل الإسكندر هذا، فبعد معركة إسوس اتجه نحو سوريا وفلسطين، وفتح استيلاؤه على صور القوية سنة 332 ق.م الطريق أمامه للسيطرة على بقية المنطقة، فاستولى على القدس، ودخل غزة، ومنها توجه إلى مصر.
وقد ارتكب الإسكندر فظائع في صُورَ وغزّة لمقاومتهما العنيفة له، وقد كانت “صور” أصعب مدينة لقيها الإسكندر في حروبه الطويلة في العالم؛ إذ امتد حصاره لها سبعة أشهر.
ومما يخص القدس هنا أن الإسكندر عامل يهودها برفق يشبه ما كان عليه الفرس في هذا الأمر، ويقال إن أحد أحبار اليهود أثّر فيه، ونال رضاه، وشفع لقومه عنده..
ولكن مدينة القدس نفسها ضعفت أهميتها التجارية والسياسية في هذه الأثناء، وسط هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف، واكتفت القوافل التجارية بالمرور بالمدن الفلسطينية الأخرى ذات الموقع الأفضل والغنى الأكثر في المواد الخام.
وعلى الرغم من موت الإسكندر في شبابه المبكر (سنة 322 ق.م)، فإن السياسات التي أقرها، والنظم التي ثبّتها – أثرت في تاريخ القدس والمنطقة ثلاثة قرون متتالية، وذلك أنه ثبّت دعائم دولة قوية في مصر، ونازعتها دولة أخرى في سوريا والعراق، وكلتاهما مثّلتا الثقافة والحضارة اليونانية، التي كانت طابع هذا الزمن، وكان لها تأثير مباشر على الثقافات القائمة حينئذ، حتى لجأ المفكرون اليهود إلى فلسفة كتابهم المقدس حتى يتخلصوا من تناقضاته، ويُظهروا توافقه مع العقل والمنطق.
لم يستطع هيراكليس – الطفل الصغير الذي تركه الإسكندر على العرش – ولا أريداوس – أخو الإسكندر ذو الإمكانات الضعيفة والذي سعى البعض إلى وضعه على العرش – أن يفعلا شيئا؛ لذلك تنازع الأمراء الإغريق من بعد القائد الراحل على السلطان، وكوّن بطليموس الأول دولة قوية في مصر، وفعل سلوقس مثلَه في بابل وأنطاكية، ونُسبت الدولتان (البطلمية والسلوقية) إلى الرجلين، وتبادلتا السيطرة على القدس، لكن السمت الإغريقي كان مشتركا بينهما..
وفي هذه المرحلة من التاريخ، ولعشرات متتالية من السنين، تعرضت القدس وفلسطين عموما- “باعتبارها منطقة عبور مركزية للقوات المتصارعة – للغزو المتواصل من الجيوش السائرة من آسيا الصغرى إلى سوريا أو مصر، تحمل أمتعتها ومعداتِها وعائلاتها وعبيدَها. وفُتحت أورشليم ست مرات على الأقل في تلك السنوات”.

8.    القدس تحت حكم البطالمة

أتاح الموت المبكر للإسكندر، دون أن يترك من بعده خلَفًا قويا، الفرصة لقواده أن يكوّنوا دولا مستقلة تتوارثها ذرياتهم، وكان بطليموس الأول ابن لاجوس – الصديقُ الحميم للإسكندر – من أهم هؤلاء القادة وأشهرهم؛ إذ قام كرسيُّ مملكته في مصر، وذلك بعد تناحر وتقاتل شديد بين أخلاف الإسكندر، أدى إلى اختفاء الأسرة المالكة تمامًا – إما بالقتل وإما بغيره – بعد بضع سنوات من موت الإسكندر.
وقد تحكمت الجغرافيا في التحركات الحربية والسياسية لبطليموس، الذي كان يطمع في أن تكون له في مصر دولة بحرية قوية، فوجد نفسه مضطرا لخوض الحرب من أجل المواني الفينيقية الرابضة على شواطئ المتوسط الشرقية، فكان يناور – أو يضطر – أحيانا إلى ترك سوريا ومدن الساحل في يد خصومه، لكنه سرعان ما كان يعاود الرجوع إليها من أجل هدفه الكبير..
إن كثرة الحروب في تلك الفترة، وتوالد الأحلاف بعضها ضد البعض الآخر – يجعل أحداثها متداخلة مختلطة، خاصة أن الحلفاء اليونانيين كانت تحدث بينهم شقاقات وخلافات متجددة، تؤدي إلى اندلاع الحرب بينهم. كما أن أسماء المشاركين في تلك الأحداث كانت كثيرة بشكل لافت للنظر.
لكنْ يبقى اسما “بطليموس” و”سلوقس” – فيما يخص القدس على الأقل – من أبرز الأسماء في أحداث التصارع والتنافس اليوناني، فقد أقام كل منهما – وكانا حليفين وصديقين في الأصل – دولة عُمِّرت في مكانها زمنا، فكان سلوقس في بابل وأنطاكية، وبطليموس في مصر، وهما الموطِنان المتنافسان على مدن فلسطين وسوريا منذ أقدم العصور..
لقد كانت القدس قبيل سنة 318 ق.م تحت سيطرة أمير مصر اليوناني بطليموس الأول لأول مرة، وقد دخلها – كما تشير بعض الروايات – يوم السبت، الذي يقدسه اليهود، مستغلا طقوسهم وعاداتهم في الامتناع عن العمل في هذا اليوم..
ولكن قدمي بطليموس لم تستقرا في القدس وعموم الشام مرة واحدة:
 ففي عام 315 ق.م هزمته جيوش أنتيجونس – المنافس القوي على خلافة الإسكندر – حتى اضطر بطليموس إلى ترك القدس فيما تركه من أرض سوريا وفلسطين.
 وفي عام 312 ق.م كان بطليموس قد أعد العدة لاستعادة الشام، ووقعت الحرب بينه وبين جيوش أنتيجونس التي كان يقودها ابنه ديمتريوس، فانتصر بطليموس قرب غزة انتصارا ساحقا، وكان أهم حلفائه حينئذ سلوقس، الذي قدّم له بطليموس المعونة للعودة إلى عرشه في بابل بعد هذه المعركة.
 وشهد عام 311 ق.م معركة أخرى ساخنة في شمال الشام بين قوات بطليموس وبين قوات ديمتريوس الذي حقق تفوقًا واضحًا، وسيطر على سوريا، في حين اتجه أبوه أنتيجونس بقوات أخرى حتى سيطر على فلسطين..
 وقد أعلن بطليموس نفسه سنة 305 ق.م ملكًا على مصر، حين هدأت بعض العواصف الثائرة حول تركة الإسكندر الأكبر، وإن بقيت الأحقاد متوارية داخل النفوس، وكاشفة عن نفسها في الوقائع والحروب.
 في هذه الأثناء كان العديد من القادة اليونانيين – مثل بطليموس وسلوقس – يشكلون تحالفا واحدا ضد “أنتيجونس”، الذي سيطر على مساحات واسعة من ممتلكات الإسكندر الآسيوية، وطمع في أن يكون هو العاهل الأكبر للإمبراطورية كلها. وفي سنة 301 ق.م سحق المتحالفون جيوش “أنتيجونس” عند سهل إسُّوس (طرسوس)، وقتلوه هو نفسه، ولكن بطليموس لم يشارك في هذه المعركة، وبالتالي رأى حلفاؤه أنه لا حق له في السيطرة على سوريا التي وعدوه بها، وقرروا منحها لسلوقس.
 اعترض بطليموس على هذا القرار، وسارع بالسيطرة على سوريا وفلسطين ومدن الشاطئ المتوسطي سنة 301 ق.م، ومن هنا امتد الصراع على القدس وعموم الإقليم السوري بين الأسرتين زمنا طويلا، وكان هذا جزءًا من تاريخ القدس، بقيت المدينة خلاله تابعة لبطالمة مصر قرنا من الزمان..

9.    الأثر البطلمي على القدس

بقيت القدس في يد بطليموس سوتر أو بطليموس الأول بقية حياته (توفي سنة 282 ق.م) منذ سارع بالاستيلاء عليها سنة 301 ق.م، واستمر خلفاؤه من البطالمة هناك بشكل متواصل تقريبا طوال قرن كامل من الزمان..
وكان نفي بطليموس الأول لليهود خارج القدس، ونقله الكثير منهم إلى الإسكندرية، وتغلبه على المحاولات السلوقية للسيطرة على المدينة – من أهم أعماله ذات الصلة بتاريخ القدس..
وقد بقيت الطائفة اليهودية المنفية إلى الإسكندرية من أهم الطوائف اليهودية في العالم حينئذ، وكان لهم دور كبير في فلسفة الفكر الديني اليهودي؛ ليتوافق مع التراث الفلسفي والفكري لليونان..
وبعد بطليموس الأول تولى ابنه بطليموس فيلادلفوس أو الثاني، وقد جلب – فيما يقال – اثنين وسبعين حبرًا يهوديا من القدس إلى الإسكندرية، حيث أمرهم بنقل أسفار العهد القديم إلى اليونانية، فبدءوا في أداء هذه المهمة – حسب الرواية – سنة 285 ق.م، وسُمّيت هذه الترجمة بـ “السبعينية”، وهي ترجمة يرى الباحثون أنها غير دقيقة.
ومن العجيب في هذه القضية أن يستجلب بطليموس الثاني أحبارا من “القدس” للقيام بهذه المهمة، وكان الأولى به أن يستعين باليهود القريبين منه في الإسكندرية، وكان الكثير منهم ذوي ثقافة ممتازة، كما لم تكن اللغة اليونانية قد أخذت موضعها المكين لدى سكان مدينة هامشية بالنسبة لليونانيين كالقدس، حتى يُكلَّف أهلها بهذه المهمة الثقيلة.
كما أننا لا ندري سببا لرعاية ملك وثني لترجمة هذه الأسفار، التي تأثرت كثيرًا بالأمم التي تَوَزَّع اليهود بينها.
ويسجل المؤرخون أن اليونانيين كانوا من أبرع الأمم وأحرصها على صبغ حياة الشعوب التي يغزونها بصبغة الإغريق الثقافية، وعلى الرغم من أن القدس لم تكن حينئذ في القلب من عملية “الأغرقة” هذه – إن صح التعبير – فإن أحد الدارسين يسجل أنه “لم يمض قرن على موت الإسكندر حتى تأثرت هي أيضا بإغراء الهيلينية (وهي الثقافة والحياة الإغريقية) الذي لا مهرب منه، وهو إغراء مادي من ناحية، ففي وسعك أن تتصور التجار الإغريق يغدون ويروحون في أسواق أورشليم، والفرصةَ المتاحة لكل يهودي حاذق مغامر في المراكز التجارية الهيلينية العظمى التي تنتشر الآن من حوله.. ثم إنه إغراء اجتماعي – من ناحية أخرى – ذلك أن الهيلينية كانت بسبيلها إلى أن تصبح الهواء الذي يتنفسه الناس، ولم يمض طويل زمن حتى عرضت مفاتنها الاجتماعية، بل والرياضية جهارا أمام أعين الشباب الطموح في أورشليم..”.
وظلت الثقافة الإغريقية تقدم إغراءاتها لشعوب المنطقة، ولاحظ الدارسون تأثير ذلك بقوة على حياة اليهود، فقال أحدهم: “لا شك أنه كانت هناك معارضة للأساليب الهلينية، ولكن الأسر النبيلة الغنية – بل وأوساط الكهنة أيضا – تغلغلت فيها المطامع الدنيوية، وأصبحت لا تكترث بالمعايير القديمة التي فرضتها اليهودية المدققة”.
والأثر البطلمي على عموم فلسطين سجلته مجموعة برديات اكتشفها الأثريون، وسميت “برديات زينون”، فقد أثبتت أن فلسطين كانت تمد مصر بزيت الزيتون والخيول العربية والأغنام والرقيق والفضة، وأوردت البرديات أسماء مدن فلسطينية اتخذت أسماء بيزنطية..
وفي العهد البطلمي لم تكن القدس هي أهم مدن فلسطين، بل شغلت هذه المكانةَ مدينةُ عكا الساحلية، والتي سُميت حينئذ “بطلمية”.
وأما القدس، فكان فيها وفيما حولها تجمع يهودي موالٍ تمامًا للبطالمة، ويدفع زعماؤه لهم الجزية. وظهرت بين اليهود موجة من التحرر من الدين بتأثير الفترة البطلمية. وقد حاول بطليموس الرابع توحيد الأديان مع اليهود، فجعل الرب الإغريقي ديونيسوس هو الجامع بين يهوه (الإله الخاص باليهود) وسرابيس (معبود الإغريق). وعلى الرغم من شناعة ذلك استجاب المتحررون الجدد من اليهود لبطليموس.
لكن هذا الولاء اليهودي تلاشى مع تزايد فرض الضرائب عليهم من قِبَل البطالمة، فعاونوا أنطيوخوس الثالث في لقائه الحاسم ضد البطالمة سنة 200 ق.م، والذي دخلت بعده القدس تحت سلطان السلوقيين.

10.                      الصراع البطلمي السلوقي على القدس

اعترافًا بفضله في إعانته على استعادة عرشه، لم يشأ سلوقس الأول أن يحارب بطليموس الأول حين سيطر على الإقليم السوري (والقدس جزء من قطاعه الجنوبي) عقب معركة إسوس سنة 301 ق.م، لكن العداوة بين الأسرتين ظلت تُتَوارَث وتنتقل من جيل إلى جيل، حتى وقعت سلسلة حروب طويلة في الصراع على هذا الإقليم
حافظ بطليموس فيلادلفوس تسمَّى “الحروب السورية”. (الثاني) على سياسة أبيه في استمرار التمسك بفلسطين وسوريا؛ فوقعت الحرب السورية الأولى بينه وبين ملك بابل السلوقي أنطيخوس الأول من سنة 276 – 272 ق.م. ويبدو أن جماعات البدو في فلسطين وسوريا آزرت السلوقيين على البطالمة في هذه الحلقة من الصراع؛ فأحد النقوش الهيروغليفية بمتحف اللوفر يشير إلى أن بطليموس فرض الجزية على مدن آسيا، وطارد بدوها وفتك بهم. في حين يشير نقش بابلي بالكتابة المسمارية إلى أن الجيش البابلي (أي السلوقي القادم من بابل) دحر الجيش البطلمي في الشام. والمؤرخون يؤكدون أن هذا يشير إلى استيلاء السلوقيين على دمشق، ويؤكدون أيضا أن البطالمة ظلوا يتحكمون في الشاطئ الفينيقي ومدنه البحرية العظيمة (صيدا وصور على وجه الخصوص)، وكانت هذه المدن هي أهم ما يعنيهم..
وهذا يشير إلى أن مدينة داخلية، ليست ذات موارد تُطمِع أحدا فيها (كالقدس) – لم تكن في هذا الزمن هي موضع التنافس والخلاف، بل دفع إلى كل هذه الحروب التنافسُ على المدن والشواطئ الغنية وذات الموقع التجاري المؤثر..
وقد عقد أنطيوخوس الأول وبطليموس الثاني هدنة سنة 272 – 271 ق.م، انسحب السلوقيون على أثرها من الشام كله، وبقي في يد البطالمة.
وبعد حوالي عشرين عاما تجددت الحرب بين البطالمة والسلوقيين (في عهد بطليموس الثاني وأنطيوخوس الثاني)، وانتهى الأمر سنة 252 ق.م بهدنة أخرى أبقت القدس وغيرها من أنحاء سوريا الكبرى في يد بطليموس الثاني.
وفي عام 200 ق.م حقق السلوقيون نصرا حاسما على خصومهم البطالمة في معركة بانيون (بالقرب من نهر الأردن) أثناء وقائع الحرب السورية الخامسة، فخرجت القدس وفلسطين – على أثر ذلك – من يد البطالمة تماما، وإلى الأبد، على الرغم من محاولات بطليموس السادس والتاسع استعادتها..
ومن أهم ملوك السلوقيين الذين كانت لهم أعمال مهمة تتصل بالقدس:
 أنطيوخوس الثالث: انتصر على البطالمة، وحقق حُلم أجداده في ضم الإقليم السوري كله إلى مملكته، وزار بيت المقدس سنة 177 ق.م فاستقبله يهودها المتحررون بالترحاب، وطلبوا منه أن يقيم لهم جمنازيوم إغريقيا ودارا للشبيبة، “وأن يدمج بعض الضواحي في أورشليم لتصبح بمثابة أنطاكية جديدة لما حولها”، وقد استجاب لكل ذلك، كما حسم الصراع الداخلي بين اليهود على منصب الحبر الأعظم، واختار له شخصا مواليا له.
 أنطيوخوس الرابع: (أبيفانس) كان حاكما متعصّبا للثقافة الإغريقية، حاول فرضها على الناس بالقوة، وكان يرى في متعصبي اليهود قوة مناهضة لمشروعاته تعطل فرض هذه الثقافة، فعمد – فيما تذكر الروايات – إلى تحويل بيت عبادتهم إلى بيت للأوثان، وتحريم بعض عاداتهم وشرائعهم، واضطهدهم بشدة. وسعى أبيفانس إلى إجراء آخر خطير، وهو تغيير اسم المدينة من “أورشليم” إلى “مدينة زيوس الأولمبي”، ولكنه فشل فيما نجح فيه الرومان من بعد حين أطلقوا على القدس اسم “إيلياء”.
وقد أدت الإجراءات القاسية من بعض ملوك السلوقيين إلى ثورة يهودية اشتهرت في التاريخ باسم “الثورة المكابية”، أنهت سيطرة اليونان على القدس، ومهّدت الطريق أمام الرومان الذين قضوا في المنطقة زمنا طويلا.

11.                      الثورة المَكابية

بدأت هذه الثورة ضد السيطرة اليونانية السلوقية سنة 167 ق.م، وقادتْها أسرة تسمى “الحشمونية”، قيل إن زعيمها كان كاهنا طاعنا في السن يسمى “ماتاثيوس”، ويُعينه خمسة أولاد له، منهم يهوذا الذي لُقِّب بـ “مكابيوس” (أي المطرقة)، وقد قاد قومه سنة 165 ق.م إلى انتصارات مفاجئة على حكام سوريا السلوقيين، حتى دخل بهم القدس، وطهر بيت العبادة من وثنية اليونان..
وفي العام التالي حاقت الهزيمة بالثوار، لكنهم نالوا حريتهم الدينية، وتُرك لهم الإشراف على بيت عبادتهم في القدس، وإقامة شعائر دينهم بحرية.
وحين اندلع القتال من جديد كانت اللقاءات ساخنة، حتى قُتل زعيم اليهود، برغم الانتصار الذي  حققه أتباعه، في معركة عَدَسا سنة 161 ق.م، حيث كان اليهود قد طلبوا المعونة من الرومان.
وقاد بني إسرائيل في المرحلة التالية يوناثان – الابن الثاني لماتاثيوس – حيث كان دعاة الثقافة الهلينستية (أي اليونانية المطعَّمة بشيء من الثقافات الشرقية) قد عادوا للسيطرة على الأوضاع من جديد، لكن يوناثان كسر خصومه من السلوقيين الذين كانت الفُرقة قد دبت بينهم، وأصبح هو كاهن قومه سنة 153 ق.م..
وبعد اغتيال يوناثان استطاع أخوه سمعان قيادة قومه سنة 142 ق.م، حتى اعترف لهم ديمتريوس الثاني – ملك سوريا السلوقي – بحريتهم، وصار كاهنا وملكا في أورشليم.
وكان من المنتظر أن تكون هذه بداية لدولة يهودية قوية، ولكن التاريخ سجل لنا غير ذلك، حتى قال أحد الدارسين الغربيين: “كان الجمع بين رئاسة الكهنة والمُلك في يد شخص واحد كارثة كبرى على اليهود، فقد سُخِّرت وظائف كبير الكهنة لخدمة المآرب الدنيوية”.
وحاول بطالمة مصر في عهد عاهل أورشليم الإسكندر حنايوس (104 – 78 ق.م) السيطرة على الدولة اليهودية، لكن الهدف من الحرب لم يتحقق، ورجع البطالمة إلى حدودهم، على الرغم من الشقاق اليهودي الداخلي..
نشبت حرب أهلية في الكيان اليهودي المتهالك، ووقعت الفرقة في الدولة الضعيفة أصلا، وانقسموا فريقين متباغضين (الصدوقيين والفريسيين)، وساند الإسكندر حنايوس الصدوقيين، وارتكب مذبحة بشعة ضد الفريسيين، حتى صلب – كما تحكي الرواية – ثمانمائة منهم، ونصب موائد الطعام أمامهم، ليتناوله هو وأتباعه على مشهد من خصومهم الذين يعانون أمامهم سكرات الموت!!
كان هذا مُؤْذِنا بكارثة قريبة تحل بهذا المجتمع المريض، الذي خالف تعاليم الأنبياء، ودنس أرض القدس بأنواع شتى من المنكرات، وأراق الدماء الحرام فوق الأرض التي شهدت أياما مجيدة من جهاد الرسل، ودعوتهم الخلق إلى الله.. وتمثلت هذه الكارثة في استيلاء القائد الرومي بومبي على القدس وفلسطين..


مع القوة الهائلة التي بلغتها مملكة آشور، إلا أن جيوشها عجزت عن احتلال القدس، واكتفى ملوكها – في عنفوان قوتهم – بحصار المدينة داخل بحيرة من الممتلكات الآشورية.

كثيرون لم يكن من مصلحتهم أن تستقر للآشوريين قدم في فلسطين، فقد اعتاد حكام مصر القريبون أن تكون هذه البلاد تابعة أو موالية لهم، ولن يرضيهم أن يقوم فيها سلطان قوي لغيرهم، كما كان هناك منافس لملك بابل “سنخرب” (أو سنحاريب) اسمه (مروداخ بلدان) على عرش المملكة، ويهم هذا المنافس أن يصنع القلاقل لخصمه في كل ناحية..

Brak komentarzy:

Prześlij komentarz